جلستُ أتأمل أنامل الحلاق وهي تقبض على فوهتي المقص، وشفرتيه تمران على خصلات شعر رأسي تقبضان على تلابيب ما طال منه، وتطيحان به جانباً، وترثيان خصلات تقاوم الزمان ولم تعد تقوى على النماء بينما تتجنب شفرتا المقص الخوض في تلك المساحات البيضاء التي عَّرفتني في لحظة بمرور الزمان السريع وكأنه طرفة عين!..، أمام المرآة الدائرية تسترق نظراتي حركة المقص، وهي تتجول بخفة ورشاقة.. ثم تعود عيناي للاستسلام إلى غفوة قصيرة، ثم تفيقان على صوت طقطقة «المقص» ذهاباً وجيئة، نزولاً وطلوعاً عبر تجاعيد رأسي الذي ما فكرت يوماً أن ألتقط القلم لأرصد حركة المقص وهو ينهب أرض رأسي متسائلاً في قرارة نفسي عن سر هذا «المقص» الذي تنحني له الرؤوس جميعاً وتستسلم له الذقون والرقاب، يستوي تحت لمعان شفرتيه الطوليتين الوزير والغفير، الفقير والغني، الرجل والمرأة، الطفل والكهل.. وجميعهم يأتون إليه طواعية لتهذيب ما خربته أيادي الدهر.! كان يتجول بين خصلات شعري يفرز الأبيض من الأسود، يتوقف قليلاً للبحث عن طريق سالكة لالتقاط شعرة تمردت على وقع طقطقاته المتواصلة «!» ثم يرتفع بين أنامل الرجل الواقف ليعيد الكرّة تلو الأخرى في متابعة متلاحقة لشعيرات تناثرت هناك دون انتظام!. أمام المرآة اصطفت السنوات «الخمسون» وكأنها حبات عقد انفرطت في تراص مستقيم، يستذكر في لحظات سريعة ما تركته هذه العقود الخمسة على أخاديد وجهه وشعر رأسه الذي لايزال «المقص» يجوب أطرافه ويعبث في وسطه، ويحاول أن يعيد إليه بعض الذي مضى!. كنت أفكر بسلطة هذا «المقص» على رؤوس الجميع.. يأتيه الذين يتسلطون بنفوذ قوتهم أو سلطة مراكزهم أو تأثير أموالهم صاغرين مستسلمين وكأنهم لا يتزينون وإنما يتفكرون في طأطأة رؤوسهم،لو كانوا يفهمون. ومع أنهم يأتون إليه مستسلمين دوماً؛ إلا أنهم لم ينظروا إلى أبعد من حركة «المقص» الروتينية، وكان الأجدر بهم أن يتأملوا كثيراً في قراءة دلالة هذا الواقف على رؤوسهم كأنه الطير يذكّرهم بتفاهة الاستقواء بما لديهم من متاع الدنيا «!». ما أن تتحرر رؤوسهم من سطوة وسلطة «المقص» ينسون تلك اللحظات القليلة، البالغة الدلالة، فيهرعون بعيداً عنها إلى حيث نصبت لهم الحياة شباكها، وأغرت إليها ضعاف النفوس في الوقوع تحت أحابيلها!!. وهناك من يأتيه متبرماً مكفهر الوجه مقطب الجبين؛ عيناه غائرتان يتنقل بهما بين زوايا المرآة وكأنه على خصام دائم معها، ثم يستسلم لسلطة «المقص» بعد أن يكون قد رمى خلفه بعض الهموم؛ واستغرق في صمت موحش عدا طقطقة «المقص» وهو يغوص وسط شعر كث لا توقفه غير كلمات الرجل الواقف كالمسمار قائلاً: «نعيماً.. نعيماً!».!.