هل أساعدك ؟ لا سوف أساعدك قلت لك .. لا لن تقدري أن تحمليهما وحدك ! قلت لك . لا . لا .. ابتعد عني . مشت خطوات قليلة ، فقدت توازنها وسقطت . سمعت ضحكته .. ثم قال لها : لن اؤذيك . دعيني فقط أحمل معك . نظرت إليه . الرياح شديدة ، اللثام يغطي نصف وجهه . كما يغطي اللثام وجهها . هزت رأسها دون أن تتفوه بشيء . حمل صفيحة الماء وحملت هي الصفيحة الأخرى. تعمد أن يمشي خلفها بخطوات بطيئة . وراح يراقبها من الخلف حيث تلاعب الريح ثوبها وتجعله ملتصقا بشدة على جسدها .. تنهد الشاب ونطق : اّاّه توقفت. استدارت نحوه . حدقت فيه .. : امشِ أمامي . أنت متأكدة . امشي أو اترك الماء هنا . سبقها مسرعاً بخطوات عدة . ثم قال بعد حين دون أن يلتفت إليها : هل أبدو جميلاً من الخلف. سافل. الرياح كانت تقيد كثيراً من حركاتهما . كادت الفتاة أن تتعثر أكثر من مرة. وقال خلالها ساخراً : أعتقد أني سأضطر أن أحملك أنت وصفيحة الماء . لقد تعبت . جلست تحت ظلال شجرة .أنزل صفيحة الماء من رأسه . وبقي واقفاً متفرجاًَ من حوله . سألها : أين تسكنين . أين قريتك . اشتدت الرياح من حولهما واختبآ معاً خلف جذع شجرة، أثناء ذلك ضاع صوتها مع صفير الريح. صاح بأعلى صوته قائلا : لم أسمعك . ماذا قلت ؟! صاحت من خلف اللثام : هل ترى تلك الهضبة الصغيرة ؟ وأشارت بيدها. نعم أراها . عندما نصل إليها اترك الماء وارحل . أرحل ! لكن لا توجد قرية هناك . نظرت إليه مباشرة . وقالت بلكنة حازمة : ضع الماء هناك فقط وارحل . أو ارحل ألآن . هز رأسه وحدق إلى الهضبة . ثم قال وكأنه يكلم نفسه : إن أقرب قرية من تلك الهضبة هي .. وسكت. التفت إليها وتابع : تلك التي يعيش فيها اليهود . والمسلمون أيضاً . كاد أن يسألها من أي فئة أنت . لكنه فضل الصمت. لم يطل صمته كثيراً : ارفعي يدك. ماذا؟. دعيني أرَ يدك . رفعت يدها إلى أعلى . فأمسكها بلطف وترك أنامله تمر على أناملها.. سحبت يدها وهتفت : ماذا تفعل ؟ فقط أتأكد إن كان لك أصابع مثل أصابعي . ماذا وجدت ؟ أن لك أجمل أصابع رأيتها في حياتي . نظرت إليه طويلا . أصابتها الدهشة فهذه هي المرة الأولى التي تسمع أحدهم يتغزل بأصابعها: لنرحل من هنا . وحملت صفيحة الماء على رأسها ومشت . مشى خلفها وعلى فمه ابتسامة : ذات يوم سأحضر إلى قريتك لأبحث عنك وأتزوجك . لن تعرفني ! بل سأعرفك . كيف ؟! لا تسألي رجلاً لا تعرفينه كيف . توقفت. واستدارت نحوه : هل لك أن تمشي أمامي. مر من أمامها . وهمس : سأخبرك عندما أتزوجك . ضحك وتلاشت ضحكته سريعا مع الريح . مشيا بقية الطريق إلى الهضبة صامتين. كان هناك حمار مربوط على شجرة. هذا حمارك . هزت رأسها دون أن تتفوه بكلمة . تمشين مسافة طويلة حاملة صفيحتين من الماء بوزن هذا الحيوان و .. قاطعته : لا أريد أن أجهده .. أمامنا مسافة طويلة . وماذا لوعدت ولم تجدي حمارك العزيز . الكل يعرف حماري . ثم من هذا الذي يسرق حماراً إلا إذا كان حماراً . قالت كلمتها الأخيرة وهي تنظر نحوه نظرة ذات معنى . سوف أعتبرها نكتة منك . وضعت الصفيحتين على ظهر الحمار: أشكرك لقد ساعدتني كثيراً . سأحضر إلى قريتك وأجد حمارك ويدلني عليك . شاهد عينيها تضيقان قليلاً وفهم أنها تبتسم. لكزت الحمار بعصا وقالت : مع السلامة . لحظة . ماذا تريد بعد؟ ألن تدعيني أرى وجهك ؟ لم تقل شيئا. اسمعي . سوف أبعد عني اللثام، وسوف تفعلين أنت كذلك . ابدأ أنت . نزع اللثام عن وجهه. لكزت الحمار مرة أخرى ومشت . إلى أين أنت ذاهبة . دعيني أرَ وجهك. وجهك لم يعجبني ، ارحل قبل أن تمطر. بقي واقفا يراقبها بإعجاب : ماكرة .
في ذلك اليوم لم ينزل المطر ، ولا حتى بعد شهر . وضع شيئا في جيبه قبل أن ينزل من الهضبة. الرياح قد رحلت منذ أيام طويلة بعد أن اقتلعت الأشجار من جذورها . مرة أخرى أدخل يده في جيبه وتركها هناك. رائحة القرية مختلفة عن رائحة قريته . السوق اليوم مكتظ بالبائعين والمشترين . الأصوات تعلو من كل الأفواه ، أحدهم جره من قميصه وهمس له : لدينا بندقية تركية . ابحث عن امرأة تركية ، هل أجدها لديك ؟ حدق به الرجل بدهشة. ثم همس له بجديه : تعال الأسبوع القادم . ترك الرجل ضاحكاً . وتجول في السوق مفتشا عن شيء ما . النساء والفتيات الصغيرات كثيرات في السوق. أغلبهن يفترشن الأرض لبيع الخضار أو الخبز واللبن حتى الملابس القديمة . راح يتفرس في وجوههن . أخرج يده من جيبه ثم راح ينظر إلى راحة كفه. اصطدم به أحد المارة فسقط الخاتم تدحرج فركض خلفه . ويلتقطه ، قبل ذلك رأى أمامه فتاة جالسة وأمامها زنبيل. وكانت تحرك يدها لتهش بها الذباب من على الزنبيل. شاهدته . توقفت عن هش الذباب، بقي هو في مكانه يتطلع إليها. تقدم منها. جلس أمامها : أنت جميلة جدا . حاولت أن تتحاشى نظراته. تابع قائلا : قلت لك إني سأعرفك . دلك الحمار علي. وابتسمت. لا .. قلبي. لم تعلق. هاتي ِ.. يدك لا حاول أن يمسك يدها ، لكنها امتنعت. بسط أمامها الخاتم الفضي وقال : لقد صنعته من أجلك . من أجلي .. لماذا ؟! خذيه أرجوك . مدت إصبعها. أدخل الخاتم فيه، لم تستطع أن تخفي فرحتها : إنه جميل . هل يزعجك هذا الرجل ؟ تحركت الفتاة من مكانها بارتباك . رفع الشاب رأسه نحو صاحب الصوت. رجل سمين يضع على رأسه قبعة صغيرة يتدلى من جانبي رأسه خصلات من شعره . قالت : لا.. إنه فقط سوف يشتري الخبز كاملا . نهض الشاب وردد : نعم.. نعم. لم نتفق بعد على السعر . هات عشرة ريالات . لا ، هذا كثير. لا أملك سوى ثمانية ريالات . وأخرج من جيبه نقوداً معدنية ، فأخذها الرجل ووضعها في كيس كان يحمله، ورحل. فسألها الشاب : من هذا ؟ أخي . أنت ..! نعم أنا يهودية . وأضافت في قلق : أرجوك لا تعد إلى هنا . سأتزوجك . أنت مجنون سيقتلني أخي . إذن تعالي معي . أرجوك ارحل . وضع الزنبيل على رأسه وقال دون أن يلتفت إليها : سأعود و آخذك معي. تردد الشاب كثيراً على الهضبة، قال في نفسه لعلي أراها مرة أخرى . ذات مرة وجد الحمار مربوطاً إلى الشجرة . ربت على رأسه كصديق قديم وقال : سنبقى معا في انتظار صاحبتنا . وجلس واستند على طهر الشجرة وشعر بالتعب ونام . حضرت الفتاة وراحت تراقبه مبتسمة . وقبلته في جبينه ، فتح عينيه.. شاهدها أمامه .. وهتف : ماذا فعلت ؟ ماذا فعلت ؟! لقد قبلتني . أبعدت رأسها : تحلم وضع يده على جبهته : مازالت جبهتي رطبة .. حارة لماذا حضرت ؟! لأراكِ . وبعد! وأتزوجك أنت مسلم وأنا يهودية ديننا لا يحرم ذلك . أنت لا تعرف أخي . سوف يقتلني فقط لمجرد التفكير . اهربي معي . أرجوك ارحل . حلّت الحبل من جذع الشجرة ولكزت الحمار . أمسك بمعصمها، وشدها نحوه والتصقت به. رفعت رأسها نحوه.. وتنهدت : أحضني بقوة . عصرها بكلتا يديه ، أصبحا جسماً واحداً . همس : أحبك . وضعت رأسها على كتفه : أحببتك لأنك مختلف عنهم . بماذا ؟! لم يسبق لي أن شاهدت رجلاً يلبس سروالاً غير العسكر. وضحكا.. سآخذك معي ونتزوج.. ولن يعلم أخوك بمكانك . أنت لا تعرفه . هناك شيء يجب أن تعرفيه ، سوف أتزوجك أنت . حتى لو اضطررت الأمر أن أختطفك . ابتسمت وقبلته على جبينه ، وابتعدت عنه : لقد تأخرت حبيبي، يجب أن أعود . أعادها إلى صدره وقال : أنتظرك هنا بعد يومين . وآخذك معي ، وأتزوجك . ابتعدت عنه مرة أخرى : أنت مجنون . نعم أنا مجنون لكزت الحمار . ومشت : وأنا أكثر منك جنوناً .
بعد يومين. . ساعات طويلة مضت .. وهو واقف على الهضبة . الشمس تحرق جسده . اشتد به العطش ، بدأت قواه تضعف وكاد أن يسقط أكثر من مرة إلا أنه كان يسند يده إلى الشجرة ، أقسم مع نفسه إنه لن يجلس حتى يراها قادمة .العرق وصل إلى عينيه . يحجب عنه الرؤية ، وكان يمسحه بكم قميصه ، رطب شفتيه بلسانه ، فجأة لف حول نفسه وسقط فاقد الوعي . الماء يتدفق إلى جسده.. وصوتها يتدفق إلى قلبه : اشرب أيها المجنون الجميل . فتح عينيه ببطء ، شاهد وجهها مبتسما ، كانت أكثر جمالا في تلك اللحظة ، ابتسم بصعوبة . لكنه شعر براحة كبيرة ورأسه على حجرها وأناملها تداعب شعره . تكلم بصعوبة : لقد تأخرتِ . مررت إصبعها على وجهه وجعلته يرتجف : أنا معك الآن . أعاهدك لن أتأخر مرة أخرى . أضافت : هل تشعر بالعطش الآن لا .. وأنت نعم ، أريدك أن تسقيني .
الساعة الثانية عشرة ليلا . لا أحد في القرية سوى شبحين يمشيان ببطء وتعب . طرق أحدهما باب منزل ، ظهر لهما رجل مسن . التفت إلى الفتاة ثم إلى الشاب وقال له : ستبقى هي مع بناتي .. عد غدا ومعك اثنان من الشهود. قال الشاب للفتاة : ستكونين هنا في أمان ، وغدا سنتزوج . وتزوجا ..كان حفلاً بسيطاً .. قالت له : لم أشعر بالراحة كما أشعر به ألآن . أخذها إلى بيته . قال وهو يدفع الباب : هذا بيتك . تطلعت إلى البيت ، وفي فمها ابتسامة : إنه كبير .. كنت تعيش وحدك هنا . هز رأسه ، ثم حملها ، وصعد بها السلم ، حيث كانت القناديل منتشرة على جدران البيت . الآن أنا وأنت نعيش معاً . كانت تضحك ، أحيانا ضحكتها تختفي في شفتيه ، وضعها بلطف على الفراش ، تأمل كل واحد منهما الآخر ، الخجل في وجهيهما ، القنديل الوحيد في الغرفة شاركهما خجلهما حيث بدأ ضوؤه يخفت رويداً رويداً . صنعت لك شيئاِ . متلهفة : ما هو ؟! ركض إلى دولاب صغير وبعثره محتواه . ثم التفت إليها مبتسماً ورفع يده عالياً : هذا . تألقت عيناها .. وفي فرحة صاحت : ما أروع هذه القلادة . ساد فجأة ظلام شديد . هدوء أشد .. اقتربا من بعضهما .. وتلامسه بلهفة ونشوة .. ومزقا ثيابهما في الغرفة . ورائحة العرق تفوح منهما . لم يناما حتى الصباح . افترشت الشمس الغرفة و.. جسديهما . قالت وهي تداعب صدره : عندما حضرت أول مرة إلى قريتي كيف عرفتني ؟ لمعت عيناه في خبث جميل : أتذكرين عندما التقينا أول مره وحملتُ معك الماء ومشيت خلفك . بالطبع أذكر . لديك مؤخرة جميلة لا يمكن أن أنساها . وضحك بصوت عال . وراح يداعب بيده شيئا ما في جسدها. أيها اللعين . كنت أشك بذلك . رفع رأسها نحوه .. وهمس برقة : ولديك أيضا عينان ساحرتان لا يمكن أن أنساهما .
رغم مرور خمس سنوات كان ومازال يبحث عن أخته .. لم ييأس أبدا . فتش عنها قرية قرية وبيتاً بيتاً ، وذات يوم جاء إليه رجل مهرولا ًوصارخا : أظن أني رأيت أختك . أين ؟ ليس بعيدا عنا . وأضاف مترددا : لم تكن وحدها . أمسك الرجل من قميصه وقال غاضبا : ماذا تقصد . كانت تحمل طفلة .. طفلة رائعة الجمال . شده من قميصه : أنت متأكد أنها أختي ؟ نعم .. شاهدتها بوضوح وتبعتها حتى دخلت بيتاً كبيراً ، يملكه رجل يعمل في صناعة الحلي . وصمت .. ثم تمتم : مسلم . صدم الرجل الآخر .. ابتعد خطوات عدة وراح يضرب الأرض بغضب وسخط وراح يردد : اللعنة . اللعنة .. سأحرقها .. سأحرقها . والتفت إلى صاحبه وأشار بإصبعه : اجمع الرجال الليلة . لا تكن مجنوناً فتقوم بعمل غبي ، لم تبقَ سوى أيام ونهاجر هذه البلدة اللعينة. إن جسدي كله يحترق . لن أرتاح إلا وهي تحترق مع الكلب . الليل صديقهم . كالأشباح يتراكضون في القرية . الهدوء مخيف . والخوف لا يخيفهم . لا أحد سواهم الخمسة ببنادقهم ويتبعهم ظلهم . يسبقهم أحدهم وكأنه مرشد لهم . توقف المرشد فجأة وتوقفوا خلفه ، قال هامساً والليل يحب الهمس : هذا البيت . قال كبيرهم : تسلق تلك النافدة. ادخل وافتح لنا البيت . بمهارة قفز إلى الداخل . دخلوا بخطوات تكاد أن تسمع . صعدوا السلم ، القناديل مشتعلة ، الوجوه شاحبة ومخيفة . ضحكات لرجل وامرأة في غرفة ما . تتوقف الأشباح الخمسة ، وكانوا يتنصتون .. تمتم أحدهم ساخطاً : سافلة . ركل الباب بقوة ، وانتشر البقية في الغرفة ، رمق الرجل والمرأة بذهول ، أحد الأشباح كان يحمل قنديلاً ويقترب منهما . نصف وجهه يضيء. صوته مرتبك وعيناه مرعوبتان : أخي ! يعلو صوت طفلة ، تركض أمها نصف عارية وتأخذها من فراشها وتحضنها بقوة على صدرها. قال أخوها وفي عينيه شر : في كل بيت مخلوق أعوج .. وأنت الأعوج . إنها زوجتي . ينظر إليه الأخ .. يرفع بندقيته ويطلق عليه رصاصة ، تصرخ المرأة وتركض نحو زوجها وتحاول أن تحضنه إلى جانب ابنتها . يقترب منها . ينزع منها ابنتها ، تسقط الأم .. وتتوسل : أرجوك دع ابنتي . لكنه يركلها بقوة ، يطلب من أشباحه المغادرة ، ينظر إلى أخته باحتقار : أكثر ما تمنيتُ ، أن أراك وأنت تحترقين . قال ذلك ورمى القنديل على كومة من الثياب ، اشتعلت النار وانتشرت في الغرفة، أغلق الباب خلفه بالمفتاح . حدق بالطفلة، نزع القلادة من عنقها ودسها في جيبه : أصبحت الآن أنا عائلتك . قال ذلك واختفى في الظلام .