- أمل عبدالله .. ابتسم بوهن،ومد لي ذراعاً نحيلة،ازحت الملاءة البيضاء قليلاً عن صدره،وشددت أعلى الذراع بمنديلي! فتشت برؤوس اصابعي في باطن ذراعه عن وريد. كيف صار حالي ،ياأخت؟ تطلعت إلى وجهه مبتسمة،فأتعست بسمته،ثم فتح عينيه وأنا اسحب رأس المحقن عن ذراعه. تبدين كئيبة،اليوم ! أنا؟! وتحسست وجهي: ضحكات مرحة تدافعت إلى مسمعي:آه،هذا موعد الاستراحة: ادلف إلى الحجرة الصغيرة،الزميلات يتناولن العشاء،فتحت حقيبتي،والقيت نظرة على الطاولة. ماهي اخبار،الدكتور.. غمزت فاطمة بعينها،ولم تكمل ،فكأنها انتشلتني من حلم . كيف هو الحال بينكما؟ سيء أهمس بخفوت،وأرشف الشاي ببطء: في الحقيقة ،أنت المخطئة. قرأت في وجهي سؤالاً،فأمالت رأسها نحوي: ماالذي يشدك إلى هذا المكان؟ ماالذي يشدني؟تمليت وجهها..خمس سنوات وأنا مثل فراشة: وحمامات بيضاء،تغادرني ،تتكاثر في داخلي ،وتغادرني،تتوالد في داخلي وغادر... لاتتركيه يطير من يدك. دارت فاطمة بعينها.وابتسمت أنا لنفسي وأنا أتخيله طيراً شقياً يتململ بين يدي ،خلف السماء وخلف البحر البعيد،كان يعتصر رأسه وعينيه،والآن... لاتتركيه يطير من يدك. «لاتوجد هنا سينما ولا حتى كشك لبيع الصحف» . قال لي بتذمر طفولي ،وهو يمسح الغبار عن نظارتيه،أقدام أخوتي تغوص في الطين،وامي ترفع كفيها المشققتين للشمس، والشمس قاسية:لكن الأشياء الجميلة دائماً بعيدة. رأيناه خارجاً من العيادة هذا الصباح: وحولت رأسي مرة أخرى،إليها فحاصرتني عيون أربع ،وقال صوت ساخر: هل هو خطيبك أم....؟ وسألت «منى» : هل سيرحل للعمل في العاصمة؟ فهززت رأسي ،وأشاحت هي بوجهها: كان ينبغي.. كان. في أوروبا نفسها،صارت المرأة تفضل البقاء في بيتها. ترمقني «فاطمة» بطرف عينها،وينزوي وجهها قليلاً،ويجيء وجهه سابحاً عبر الهواء..أرفع عيني عن صدره.فيختلج وجهه: يمد ذراعاً طويلة حول كتفي:«وأنا ،وعملي ،وبيت هناك؟». في أوروبا،وجدت المرأة نفسها تخدم الرجل مرتين:في البيت وخارج البيت. وضحكت «فاطمة» من جديد كمن اكتشف حقيقة مضحكة ومزعجة في آن. وعلينا نحن أن نتعظ. أقول فجأة،واضحك .فترمقني هي بنظرة حادة سريعة،وتنهض «منى» عن مقعدها متحفزة،وكل الدهشة،وكل العناد في عينيها: تقولين أوروبا. أي أوروبا؟ ! أوروبا.البلاد المتحضرة ! اكتسى وجه «فاطمة» بالضيق أنا سمعت عن بلاد أخرى متحضرة...النساء فيها.. لاتكوني ساذجة! تقاطعني ،ولكن «منى» ترفع وجهها،وتسأل كطفل: ماذا عن تلك البلاد؟ فتتدافع الصور أمام عيني،آه ما أجمل تلك البلاد! الوجوه سوداء تتزاحم وهو مغمور بالفرحة،وفتاة واحدة بينهم شعر بلون الشمس،وعينان بلون البحر ذراعها تطوقان عنقه،وعيناها تتعلقان ببسمة وجهه،بابتهاج ودود.... «الفتيات هنا رائعات ،ومدهشات... يعرقن ويسهرن ويضحكن ويرقصن، ومع الرجال سوية...» في بيتك،ومع زوجك أنت ملكة مكرمة. وضعت «فاطمة» يدها فوق كتفي..اجل ،ملكة مكرمة! وأصير ملكة،تترقب إطلالة مليكها آخر كل مساء،العينان خاملتان،والروح منطفئة ،واحلام أمي وجدتي تحاصر كل لقاءاتي معه،وكل دمعة، ولك همسة،وكل ضحكة تغدو فستاناً أو حذاء.. لماذا اخترت مهنة التمريض؟ هكذا كلا .ليس هكذا ويفرس نظراته في عيني مكوماً كتبه الجامعية داخل حقيبته..فأكوم أنا الحقن المعطبة وعلب الدواء الفارغة و.... فاطمة ،متى تتركين هذا المكان؟ نهضت عن مقعدي،وأنا أتأمل ساعة يدي. أنا؟نعم ،سأتركه .لكن.. احمر وجهها،فدفعت «منى» جسمها بيننا،وصاحت بابتهاج: عندما تلتقي ابن الحلال! اللحظات بيننا لم تفقد كل دفئها، بعد.... لا أفهم اصرارك هذا،مرتبي سيكفينا..ولن ينقصك شيئاً ابداً. وجهه هو وجهه،لكن العينين ،والصوت.. امسح وجهه بكفي وأنا ابتسم ،فيبتسم هو ،ويمسك بظاهر يدي هامساً: كل هدفي هو راحتك. فتنبش جدتي قبرها، وتحتل ضحكاتها كل وجهه.. لأكن صريحاً معك: أريد أن تتفرغي تماماً لي. والمعهد؟ أسأله يهمس،فيخلع هو نظارته وتتقلص عيناه واضحك في وجهه: ألا تريدني أن اصير يوماً،مثلك. أتمنى أن تكوني أفضل مني،لمن على الا تتعبين مثلما.. وصمت .فتاهت نظراتي فوق وجهه... منذ الأزل، والمرأة مملكتها بيتها! إنها أعظم وأجمل،عندما تكون... آه ،منذ الأزل..ويغتال حتى ذاكرته ،يوم من الأيام أعطيتك اسمي واسكنتك خلايا الدم.وكنت اكتشف الأشياء وحدي .ثم.... لماذا لاتستمعين إلي؟! عندما جاءت أمك وجاء أبي،قرأ الآيات بالمقلوب. وأرخى كل جسده في المقعد مثبتاً عينيه في سقف السيارة،لكن نظراته لم تستطع اختراق السقف،فظلت تحوم وتحوم. سأعود إليك آخر كل مساء،فتنفضين عن جفوني تعب النهار،واريح رأسي.. كنت تتوسد القلب....«لماذا اخترت أنت مهنة الطب؟» وأحس بنظراتي تطوق وجهه. فأرخى جفنيه تماماً. هل تعرفين؟العمل في العاصمة مرهق وصعب،لكني... كيف تم نقلك بهذه السهولة؟ أسأله بغتة: فيفتح هو عينيه مندهشاً. اصدقائي ومعارفي...! يصمت ومن سيحل محلك في العيادة؟ سيرسلون مساعداً صحياً. ويتكئ على مقود سيارته..فينزاح نظري عن وجهه..مساعداً صحياً،سيرسل اصدقاؤه .سبع سنوات وهو يدرس في بلاد بعيدة..سبع سنوات وأنا،وامي !وأبوه و... كنت تتحرق لانتهاء السبع سنوات حتى ترجع إلى.... كانت ...احلام. التمعت عيناه،وتنهد مبتسماً،هل كانت احلامي هوجاء؟هاهو صوته يرن في سمعي نحيلاً ،خافتاً ،عذباً..ويسطع وجهه ،المتحمس،المندهش من كل شيء،الواثق من كل شيء...ستصير قريتنا مدينة جميلة في يوم من الأيام. لقد رأيتها،القرية.لم تتغير كثيراً ،خلال.. والتمعت في السماء عيون مرهقة ،وتزاحمت بيني وبينه وجوه غبراء متربة وزحفت لحظات الطفولة إلي.فتراقص خطوي فوق صفحة خضراء معشبة..العصا بيدي ،وكوم الحطب يحضن رأسي... وما الفرق؟أنا اعمل هناك.كأني هناك البسوا كلهم أهلنا؟! قرص كتفي برفق،وادار وجهي نحو وجهه. جهاز التعقيم مطفأ لكن الماء مازال يغلي . ادنو بوجهي أكثر فأكثر. يصطدم بخار الماء بوجهي..احقاً،هي حزمة أوراق نقدية أقبضها آخر كل شهر؟هذا الماء،وهذه الحقنة وهذا المحقن وكل هذا اللهب؟أجزاء المحقن مفككة،تسبح في الماء.تخيلت نفسي مكانها اتجزأ .صحيح ،أنا ما غادرت سنوات الطفولة إلى هذا المكان إلا من أجل...ينزاح الغيم عن عيني. هل أبكي؟التقط غلاف المحقن بحذر،انفض عنه قطرات الماء..لو لم ترمقني أمي بأساها المجنون،لو لم ينزو اخوتي في ركن الحجرة الضيقة،ولو لم اخلع ثوبي المدرسي.. مكالمة لك،انه الدكتور... الممر شاحب وطويل.«ومنى» تلاحقني بوجومها وشحوبها ودهشتها...احبه،أنا،هذه الفكرة ترهقني وتعذبني، وتغمرني كما السحر،ورائحة المكان تنفذ إلى مساماتي وتسري مع الدم. وهو راحل إلى العاصمة هذا المساء. يا اخت ،تعالي إلى هنا! استدير بانزعاج ودهشة،الأضواء خافتة،والمرضى يتوزعون على الأسرة بسكون،كأنما يصغون لوقع اقدامي. أين هو الطبيب المناوب؟ اندفع إلى حجرة المكتب ونظراتي تهرب من العيون..كيف اسمح لعذاباتي الصغيرة ان...إنما،هل عسير علي أن أختار؟ سماعة الهاتف ملقاة على المنضدة كنت تقول إن المرء يتلاشى ويتلاشى في الآخرين..ثم يسطع فيهم،رائعاً،الآن، ينبغي أن اسحب طلب التحاقي بمعهد التمريض ،وأودع مرضاي وزميلاتي و.... هل مازالت على الخط؟دقات قلبي تعلو وتعلو. لكني أطبق السماعة ببطء،وأدير قرص الأرقام لأطلب الطبيب المناوب. مارس 83م