مَن مِنَ العرب لا يعرف فضل المرحوم/علي أحمد باكثير على الأدب العربي والإسلامي المعاصر وعلى الثقافة العربية وعلى الشعر الحديث..؟.. لا أحد يجهل فضل هذه الشخصية العملاقة في تاريخنا العربي المعاصر؛ غير أبناء الأرض التي ينتسب إليها باكثير.. باكثير ترك مكتبة زاخرة بالملاحم الإسلامية التاريخية التي لم يشهد تاريخ الإنسانية نظيراً لها، وربما كانت ملحمة الخليفة الراشد عمر بن الخطاب التي جعلها في عشرين جزءاً هي أروع وأبدع تلك الملاحم، وترك روايات إسلامية مماثلة؛ تناولها الناس منذ تأليفه لها حتى الساعة، وأضحت مائدة من موائد الفكر والثقافة التاريخية العربية الإسلامية التي تغذّي وتنمّي عقول الناشئة في سائر بلاد الإسلام وربما كان أبرزها رواية "واإسلاماه". فوق أن علي أحمد باكثير ألّف وأعدّ العديد من المسرحيات القصيرة والطويلة في كل الشئون التاريخية والعالمية والعربية والمصرية والساخرة والناقدة، ويعتبره البعض على التحقيق أبا الشعر الحديث، وهو الذي نظم هذا النوع من الشعر في ترجمته المبكرة لمسرحية «روميو وجوليت» للأديب العالمي "ويليام شكسبير" من الانجليزية إلى العربية. بالجملة علي أحمد باكثير رجل في أمة، تناوله الكثيرون من الباحثين والنقاد، واعتنى بدراسة تراثه الكثيرون من الباحثين والدارسين، وأقيمت دور ومنتديات ومؤسسات باسمه، ولكنه لايزال شبه مجهول لقراء العربية، ولايزال شبه مجهول لأبناء بلده اليمن. يقول علي أحمد باكثير عن ما خلفه من مؤلفات ما يلي: "أنا على يقين أن كتبي وأعمالي ستظهر في يوم من الأيام وتأخذ مكانها اللائق بين الناس .. ولهذا فأنا لن أتوقف عن الكتابة ولا يهمني أن ينُشر ما أكتب في حياتي .. إنني أرى جيلاً مسلماً قادماً يتسلم أعمالي ويرحب بها". وأنا قرأت في وقت مبكر من حياتي وقبل نحو ثلاثين عاماً من الآن ملحمة عمر التي دبجها علي أحمد باكثير، وأشهد أنها قد غسلتني بالدمع منذ أول أجزائها حتى آخرها، وكانت منهلاً عذباً من مناهل الثقافة التاريخية لعصر النبوة والخلافة، ومصدراً من مصادر العلم بأخلاق الرجال وبوقائع المرحلتين، وبأخلاق هذا الخليفة الزاهد العظيم. مما يؤسف له أن كتب علي أحمد باكثير ليست ميسورة في كل زمان ومكان لمن أراد الاطلاع عليها لسبب بسيط هو أنه وكما علمت بأن إحدى دور النشر في مصر كما يبدو قد وقّعت معه في حياته عقداً باحتكار امتياز إصدار وطبع هذه المؤلفات، وهذا العقد لايزال ملزماً، وبالتالي فإن أياً من دور النشر لا تستطيع أن تقوم بإعادة طباعة كتبه دون إذنها، كما أنها وللأسف لم تقم بتوفير تلك المؤلفات على مستوى الوطن العربي بكامله؛ وخصوصاً في بلادنا. يحدث أحياناً أن تتوافر هذه المؤلفات في الأسواق خصوصاً في فترات المعارض الكبرى؛ ولكنها غالباً لا تكون شاملة كل ما كتبه باكثير. لقد كنت ذات يوم أبحث عن رواية «سلاّمة القس» وهي إحدى روايات باكثير والتي تتناول شخصية غنائية شهيرة في عصر التابعين، هي «سلاّمة» التي نُسبت لأحد العبّاد الأتقياء الذين اشتهرت مكة بهم وقد اشتهر بتعبده وورعه بها حتى سمي بالقس، ثم افتتن بهذه المغنية وأصبح وإياها مضرب مثل بين الناس تنظم بهما الأشعار ويتغنى بهما الركبان، وقد صاغها باكثير على أساس الروايات التاريخية التي توافرت عن سلامة وصاحبها القس عبدالرحمن السلمي كما أحسب، ووضعها في أبدع صياغة. كنت أبحث عن هذه الرواية «سلاّمة القس» ذات يوم، وحدث أن زرت مركز باكثير الذي يديره الأخ الدكتور/عبدالله الخياري في صنعاء، وأبديت له الرغبة في الحصول على مثل هذه المؤلفات ودفع ثمنها، ويبدو أنه قد فهم أنني يمكن أن أموِّل إعادة طباعتها، وحيث إن إعادة طباعتها ميسورة للكثيرين من القادرين من بني اليمن أو غيرها ومن الكثير من دور النشر لولا العوائق القانونية؛ فقد أوضحت للدكتور الخياري الأمر، وتمنيت لو يعمل هو وغيره ممن لهم علاقة باسم علي أحمد باكثير بعمل حل لهذه المعضلة، ولن تستطيع أية جهة أن تضع حداً لهذه المشكلة وتوفر المصنفات للقارئ العربي واليمني على وجه الخصوص، غير وزارة الثقافة والهيئة العامة للكتب اللتين يعنيهما أمر الثقافة اليمنية والكتاب. إن وزارة الثقافة هي القادرة على أن تتفاهم مع دار النشر المذكورة والتي لها حق امتياز النشر على أساس أحد أمرين؛ إما أن توفر هذه الكتب للسوق اليمنية والعربية وتتولى وزارة الثقافة إعانتها للقيام بهذا الدور بما أمكنها ورقابة النشر والتسويق لهذه المصنفات، أو انتزاع حق الامتياز وتكليف دار أخرى، ويفضّل أن تكون من ذوات السمعة على المستوى العربي، ورقابة النشر والتسويق أيضاً لهذه المؤلفات وحتى لو كلف الأمر دفع بعض تعويضات ضرورية للدار الأولى إن لم يكن هناك إخلال من جانبها بالعقد. المهم أن تقوم الوزارة بتوفير الكتاب النادر الذي ألّفه هذا الكاتب اليمني العربي الإسلامي الفذ لكل طالبيه في اليمن والوطن العربي، بدل إنفاق الموازنات السنوية في طباعة كتب لا تحمل أدنى صفة من صفات الثقافة والأدب، وتبديد ثروات الأمة في مثل هذه السفاهات، والترهات!!. علي أحمد باكثير، ويا للمفارقة لاتزال بعض أعماله لم تُنشر وهي لاتزال مخطوطة، وهذا أمر لا يصدق ولكنها الحقيقة، فمن سيقوم بالعمل على طباعة هذه المؤلفات، وتجميع الكثير من المقالات والأشعار والمسرحيات ذات الفصل الواحد من الصحف والمجلات التي نشرها فيها، ويكمل نشر تراث هذا المؤلف العملاق؟!. نأمل من الأخ وزير الثقافة ومن الأخ رئيس الهيئة العامة للكتاب ألا يغفلا هذا الأمر، وأن يمتعونا بتوفير مؤلفات باكثير في كل المكتبات، فعلى مائدتها يمكن تربية أجيال الإسلام والعروبة الأتقياء، العارفين، المتخلقين بأخلاق العرب والمسلمين. والله من وراء القصد وهو يهدي السبيل..