لم يكن الإمام محمد بن محمد حامد الغزالي فريد عصره في الموسوعية الفكرية والتواضع فحسب، بل كان أيضاً النموذج الأكبر لكيمياء تمازج العناصر الدنيوية، فقد عاش الدهور كلها، وأقصد بالدهر هنا، تمازج الزمان والمكان في أُفق يتّسع لما وراء الزمان والمكان، فإذا كان الزمان والمكان معيارين لدهر الحدث ودهر التحوّل، فإن ما يتجاوز ذلك إنما هو معيار لدهر أشمل يمكن تسميته بدهر الدهور، ولن يتأتّى للرائي أن يعيش ذلك الدهر الآخر “ دهر الدهور “ إلا بهمة الزاهد المتعبد، والمفكر المتبحر، والمبدع الخلاق، وتلك كانت سجايا أساسية في سيرة وفقه الغزالي . عاش دهر التحوّل؛ لأنه تفاعل مع زمانه، وترحّل فيزيائياً في المكان، وعاش دهر التحول؛ لأنه قام بتأصيل علوم الدين بتنقية علوم الشريعة من الشوائب والأثقال الكبيرة مُقدماً رؤية شاملة للوسطية الدينية والفضيلة الدنيوية، وعاش دهر الدهور؛ لأنه كان مُقيماً عابداً متلمساً للشريعة ورائياً لها باعتبارها أساس الأسس وجوهر الحقيقة . ويمكننا تتبع تلك الأبعاد في سيرة الغزالي وإنتاجه من خلال كتابين كنت قد عرضت لهما قبل فترة، ولكن بصورة مغايرة لما سأقوله الآن مما سنأتي عليه تباعاً. [email protected]