أقصد بالدهر هنا، تمازج الزمان والمكان في أفق يتسع لما وراء الزمان والمكان، فإذا كان الزمان والمكان معيارين لدهر الحدث ودهر التحول، فإن ما يتجاوز ذلك إنما هو معيار لدهر أشمل كذاك الذي وصفه البسطامي عندما سئل من أنت ؟ فقال : أنا شيخ الوقت! لن يتأتى للرائي أن يعيش ذلك الدهر الآخر (دهر الدهور) إلا بهمة الزاهد المتعبد، والمفكر المتبحر والمبدع الخلاق، وتلك كانت سجايا أساسية في سيرة الأعلام من أصحاب الفكر الذين حاصروا الزمن إدراكاً وترحلاً عاشوا دهر الثبات لأنهم تفاعلوا رأسياً مع الزمان وترحلوا فيزيائياً في المكان. ويمكننا تتبع أبعاد تلك العلاقة بالمكان والزمان من خلال كتاب (كيمياء السعادة) وفيه يلخص محمد ابن حامد الغزالي مفهومه للسعادة من خلال قراءة نفسية وعضوية للإنسان يُبيّن فيها أيضاً ماهية الإبحار في العوالم الداخلية للإنسان وكيف يكون القلب متقلباً طوراً.. ثابتاً طوراً آخر، ولماذا كان القلب من مضغة استثنائية في الجسد، وكيف يتفاعل مع العقل بالمعاني الشرطية البسيطة والروحية المركبة؟. في هذا الكتاب درس بليغ في علم النفوس المؤسس على الإيمان والتسليم بالمشيئة ، مع بقاء الإرادة المخيرة للفرد القادر على النجاة وتحقيق شروط السعادة. وفي أفق آخر نقرأ له (رسالة الطير) التي يمهد فيها لتلك المفاهيم والنظرات التي تناولها «فريد الدين العطار» وتلك التي جرت على ألسنة المتصوفة، فالطير عندهم رمز الكائن الذي يعتلي ويرى الأشياء عن بعد.. كائن رشيق جميل واهن، ولكنه في آن واحد قادر على أن يفعل ما لا يستطيعه الأجلاف الذين يدبّون على الأرض من الكائنات الأخرى. الطير رمز للسفر والتنقل في المكان والزمان بحثاً عن الوصول، ولكنه في طريق الوصول إلى هدفه البعيد يعطش ويجوع وقد يهلك. هكذا هي حيوات البشر أيضاً.. أيام عامرة بالمتاعب والابتلاءات، ولا وصول إلا عبر مشقة وتضحيات، وأهم شرط للوصول الانتقالات والمفاجآت والابتلاءات.