تأصيل علوم الدين التبس تاريخياً بمفارقة أساسية تتعلق بمقاصد الشريعة من جهة، والتوظيف الدنيوي للدين من جهة اخرى، والواضح أن الطرفين يتناقضان، وأن الذين أصّلوا المعارف الدينية توخياً للمقاصد النبيلة كانوا على صواب، فيما كان الغلاة على باطل مؤكد. كان الإمام محمد بن محمد حامد الغزالي أحد كبار العلماء الذين تجشّموا مشقّة التأصيل، ولكن بطريقة تحدد الفارق بين ما يسميه المُنْجيات بمقابل المُهْلكات، مستخدماً ذلك التعميم الأخلاقي والفقهي المقرون بالمقاصد والفضيلة. ولقد كان ابن رشد على ذات الدرب بالرغم من الخصومة الكلامية التي ارتبطت بموقفيهما من الفلسفة، والشاهد أن ابن رشد اعتبرالفضيلة معيار اللقاء بين الحقيقة والشريعة، واستبعد هذا اللقاء إذا انتفى الهدف المشترك المتعلق بتحقيق الفضيلة. بالمقابل اعتبر الغزالي مجاهدة النفس شرطاً جوهرياً لإدراك حكمة الشريعة، كما اعتبر الإنسان مُخيراً بقدر التزامه بالنواميس الكونية الصادرة عن الحق، وقال بأن طريق الرشد والنجاة سالك لمن يريد السير فيه. وفي كتابه «المنقذ من الظلال» عدد الغزالي مراتب المعرفة ابتداءً من «الحكمة» أو المعرفة البرهانية العقلية المتصلة بثقافة اليونان والتي أسماها البعض «الفلسفة»، وقال الغزالي بأن ذلك العلم لم يسعفه لمعرفة الحقيقة كاملة، بل زاده حيرة على حيرة . ثم توالت تجربة الترحال في الفكر من خلال القراءة والدربة معاً، وكانت الصوفية محطة مديدة في سيرته الذاتية، غير أنه لم يتمكن من مواصلة السير على درب التصوف، معترفاً بأن همته وقفت دون ذلك !! وكان هذا اعترافاً عميق الدلالة والمعنى من عالم كبير شهد له القاصي والداني بالتفوق والمنعة الفكرية. وفي ذات الكتاب واصل الغزالي سيره على درب التنقلات من حال لحال ومن طور لآخر وصولاً إلى ضفاف الإسلام الوسطي بوصفه وسيلة للنجاة من حبائل الدنيا وزخرفها، ومن الفتن وويلاتها، ومن النفس ووساوسها. لم يكن الغزالي فريد عصره في الموسوعية الفكرية والتواضع فحسب، بل كان أيضاً النموذج الأكبر لكيمياء تُمازج العناصر الدنيوية حتى إنه يمكن القول بأن الغزالي جمع بين الحسنيين ، واستقرأ مفهوم التبيئة والنسبية وصلة المقال بالحال. في أُفق مُتّصل تجاوز المتصوفة ثنائيات النظر للحقيقة والشريعة على قاعدة التكامل لا التفارق، غير أنهم اعتبروا الثنائية الجدلية عرضاً لا جوهراً، فيما اعتبروا الواحد والمتعدد أصلاً، ولهذا رأوا في كل شاهد دلالة لمركزية الواحد الصادرة عن النقطة، وللتعددية ما يتجاوز الواحد، ولكن في تأكيد مؤكد على الواحد، فهم «يرون الجمع في عين الفرق» ولا يهمهم سوى ذلك . أبو يزيد البسطامي المتصوف الشاطح خير شاهد على ما نذهب إليه، فقد عرف عنه أنه كان لا يقول (واحد اثنان ثلاثة أربعة الخ) أثناء العد، بل كان يقول (واحد واحد واحد.. الخ)، وكأنه بهذا النمط من التعبير يشير الى المنطق الخوارزمي الرياضي الجبري الضابط لعلاقة الواحد بالعدد، وهكذا كان يبني رؤيته للوجود والموجود، فالزمان والمكان يلتقيان عند تخوم الدهر الذي يتّسع لما وراء الزمان والمكان، فإذا كان الزمان والمكان معيارين لدهر الحدث ودهر التحوّل، فإن ما يتجاوز ذلك إنما هو معياران لدهر أشمل كذاك الذي وصفه البسطامي عندما سئل من أنت ؟ فقال: أنا شيخ الدهر!. لن يتأتّى للرائي أن يعيش ذلك الدهر الآخر «دهر الدهور» إلا بهمة الزاهد المُتعبّد، والمُفكر المُتبحّر، والمُبدع الخلاق، وتلك كانت سجايا أساسية في سيرة الأعلام من أصحاب الفكر. ويمكننا تتبع أبعاد العلاقة بالمكان والزمان عند الغزالي من خلال رسالته بعنوان «كيمياء السعادة» التي لخّص فيها مفهومه للسعادة عبر قراءة نفسية وعضوية للإنسان. يُبيّن فيها أيضاً وضمناً ماهية الإبحار في العوالم الداخلية للإنسان، وكيف يكون القلب مُتقلباً طوراً .. ثابتاً طوراً آخر، ولماذا كان القلب من مُضغة استثنائية في الجسد، وكيف يتفاعل مع العقل بالمعاني الشرطية البسيطة والروحية المُركّبة . في هذه الرسالة درس بليغ في علم النفوس المؤسس على الإيمان والتسليم بالمشيئة، مع بقاء الإرادة المخيرة للفرد القادر على النجاة وتحقيق شروط السعادة . [email protected]