كان الإمام محمد بن محمد حامد الغزالي نموذجاً فريداً للمثقف الموسوعي والعلامة المرتكز على ذائقة تتجاوز البرهان العقلي والمنطقي إلى آفاق روحية واسعة، ولقد كان أحد أبرز رموز الثقافة الإنسانية ممن يستحقون المزيد من الاستجلاء والمعرفة حتى يتسنى لنا إدراك تلك الجوانب الأكثر قوة ومضاء في سيرته الحياتية والفكرية . يمكن ان نتتبع منذ البداية إسهامه الكبير في تأصيل علوم الدين في أحوال كان المسلمون فيها بأمسّ الحاجة إلى من يُجلي جواهر التعليم الديني الإسلامي، ويشرح جوانبه المختلفة على أسس رشيدة عاقلة، خاصة وأن الفتن والشعوذات قد بدأت يومها تنتشر على نطاق واسع وضل الكثيرون وخرجوا عن جادة الصواب . قام الغزالي بذلك الدور التاريخي المتميز في سفره الأكبر “ إحياء علوم الدين “ والذي أوضح فيه طريق المنجيات وطريق المهلكات، مستخدماً التعميم الأخلاقي والفقهي المقرون بالمقاصد والفضيلة . واعتبر الغزالي مجاهدة النفس شرطاً جوهرياً لإدراك حكمة الشريعة، كما اعتبر الإنسان مخيراً في سلوكاته بعد ان تبيّن الحق من الباطل، وأصبح طريق الرشد والنجاة سالكاً لمن يريد السير عليه . في أفق آخر توقف الغزالي أمام سيرته الفكرية والحياتية من خلال كتابه الصغيرحجماً والكبير دلالة وهو كتاب “ المنقذ من الضلال “ والذي عدد فيع مراتب المعرفة ابتداء من “ الحكمة” أو المعرفة البرهانية العقلية المتصلة بثقافة اليونان، وتحديداً “ ارسطو” الذي كان نبعاً معرفياً للكثير من علماء البرهان أو المتفلسفين من العرب وغيرهم، وقال الغزالي بأن ذلك العلم لم يسعفه لمعرفة الحقيقة كاملة، بل زاده حيرة على حيرة . ثم توالت تجربة الترحال في الفكر من خلال القراءة والدربة معاً، وكانت الصوفية محطة مديدة في سيرته الذاتية، غير أنه لم يتمكن من مواصة السير على درب التصوف، معترفاً بأن همته وقفت دون ذلك !! وكان هذا اعترافاً عميق الدلالة والمعنى من عالم كبير شهد له القاصي والداني بالتفوق والمنعة الفكرية . وفي ذات الكتاب “ الاعتراف “ واصل الغزالي سيره على درب التنقلات من حال لحال ومن طور لآخر وصولاً إلى ضفاف الإسلام الوسطي بوصفه وسيلة للنجاة من حبائل الدنيا وزخرفها، ومن الفتن وويلاتها، ومن النفس ووساوسها. [email protected]