عديدة هي التجارب السياسية التي تستحق التوقف لأخذ العبرة واستيعاب معادلات القوة والنفوذ التي كانت ومازالت تهيمن على المشهد الإنساني.. ومن تلك التجارب حالة رومانيا، البلد الأوروبي اللاتيني لغوياً وثقافياً، والأقرب بهذا المعنى إلى منظومة اللغات التاريخية المنحدرة من اللاتينية كالإيطالية والبرتغالية والإسبانية، ولكن، أيضاً البلد المسيحي الأرثوذكسي الذي يتقاطع بهذا المعنى مع الكنيسة الأرثوذكسية الروسية، ويمتد بظلال اتفاق عقدي مع منظومة البلدان السلافية التي تقع في هذا المربع المذهبي التاريخي . هذا البلد الواقع في قلب أوروبا أراد أن يكون مستقلاً دوماً، وأن يحافظ على مسافة منطقية بين الصداقة مع الآخر والانخطاف به، ولذلك كانت تجربة قيادة الحزب الشيوعي الروماني بعد الحرب العالمية الثانية بزعامة الرئيس المقتول «نيكولاي تشاوشسكو» .. كانت تلك التجربة جامعة بين الاشتراكية السوفيتية على مستوى التطبيق الداخلي، والتمرد في آن واحد على الولاء للاستالينية السياسية، الأمر الذي كان يُغضب موسكو، ويُعطي أملاً للبلدان الغربية في أن تخرج رومانيا يوماً ما على المعسكر الاشتراكي، ولكن هيهات لموسكو أن تقبل التمرد السافر كالذي حدث في براغ وبودابست !!. أمسك تشاوشسكو بجمرة الحفاظ على «السيادة» إزاء موسكو ، لكنه كان في تجربته الداخلية أكثر راديكالية من أي نظام اشتراكي شبيه بالحالة الرومانية باستثناء نظام «أنور خوجه» الألباني . ولقد تكررت ذات التجربة مع خلفه العتيد «اليسكو» الذي تمكن من قيادة انقلاب مبرر ضد النظام السابق، وذلك عطفاً على مظاهرات مدينة “ تمشوارا “ التي تمّت في التوقيت المناسب عندما كان الرئيس تشاوشسكو مغادراً في زيارة خارجية إلى إيران «الإسلامية» الخارجة من معطف الخميني ، وكان تشاوشسكو يُخطط لإقامة حلف سياسي جديد يكون بمثابة رد ناجز على البريسترويكا، ويضم بالإضافة إلى إيرانورومانيا ، الصين الشعبية ، وكوريا الشمالية وفيتنام ومن يرغب من البلدان الرافضة للرأسمالية والغورباتشوفية الناشئة، غير أن دُهاة الحزب الشيوعي الروماني وعلى رأسهم «ايليسكو» أدركوا فداحة التحدي وعمق المخاطر، فما كان منهم إلا انتهاز فرصة غياب «الأسد» وتحريك مظاهرة شعبية في مدينة «تيميشوارا» كيما يوقّعوا زوجة الرئيس وخليفته في الحكم «ايلينا تشاوشسكو» في المصيدة القاتلة. ولقد مضى السيناريو حسب المرسوم له ، فقد وقعت «ايلينا» في الفخ القاتل وأعطت التعليمات بالتصدي للمظاهرات ولو أدى الأمر لاطلاق النار على المتظاهرين !!، وحالما تمّت المذبحة تحركت المظاهرات المُناهضة للنظام في العاصمة بوخارست ، وبها اكتمل سيناريو الانقلاب المبرر. تم تشكيل مجلس الإنقاذ الوطني بزعامة ايليسكو، والقاء القبض على الرئيس تشاوشسكو الذي قطع رحلته الخارجية على وجه السرعة، وعاد إلى البلاد ليلقى حتفه، فقد أُعدم بعد محاكمة سياسية عسكرية «اكروباتية» كان الهدف منها أساساً حسم الوقف ومنع المزيد من نزف الدماء . حاول الرئيس الاشتراكي تشاوشسكو أن يكون مُستقلاً فلم يفلح ، وحاول خلفه ايلسيكو أن يكون مستقلاً أيضا فلم يفلح أيضاً.