التجربة الرومانية نموذج أوروبي لمُناكفة الأقوياء والتملص من إسارهم وأحابيلهم، ولقد كان ذلك الأمر مشهوداً طوال عهد الرئيس المقتول «نيكولاي تشاوشسكو» الذي أراد أن يكون إستاليناً ومتحرراً في آن واحد !! سوفيتياً بامتياز في تطبيقاته الداخلية، وليبرالياً في علاقاته الدولية، غير أن ذلك كان أمراً مستحيلاً في زمن الحرب الباردة ودقة الخطوط الفاصلة بين القوتين الكبيرتين السائدتين في العالم “ الولاياتالمتحدة والاتحاد السوفيتي “، ولقد تبينت الحقيقة في لحظة الاستحقاق الأكبر مع ظهور مد الغورباتشوفية، فقد حاول االرئيس تشاوشسكو الهروب إلى الأمام فوقع في المصيدة القاتلة، وتلاه الرئيس الحكيم والسياسي المفكر “ ايليسكو” الذي استطاع أن يُبحر بسفينة بلاده وسط أمواج متلاطمة واستحقاقات باهظة، فتولّى قيادة دفة السفينة بعد انتهاء النظام الاشتراكي، وخاض في أوحال المرحلة الانتقالية الأولى التي ترأس فيها مجلس الإنقاذ الوطني والدولة معاً، ثم عاد بعد دورة انتخابية رئاسية أخرى كي يضع البصمات المناسبة على مسيرة المناورة بين الاستقلال كمنهج تاريخي ترسخ في تقاليد الدبلوماسية والسياسة الرومانية من جهة، والتعامل المرن المُستجيب للعوامل الدولية الموضوعية الكبيسة على البلدان الصغيرة والمتوسطة من جهة أخرى. خلال مرحلة الانتقال العسيرة، من الاقتصاد الاشتراكي المركزي للاقتصاد الرأسمالي اللامركزي كان لا بد للبلاد أن تخسر كثيراً ، فقد تهشّمت البُنى التقليدية للاقتصاد القديم، وتكاثرت مافيات المال والأعمال القرصنية ممن عاثوا في الأرض فساداً، ونمت في المجتمع ظواهر تنتمي للرأسمالية الوحشية الماركانتيلية، وترنّحت رومانيا تحت ضربات المُطالبات الصعبة للبنك الدولي وصندوق النقد الدولي، وكان عليها أن تبلع الجرعات «الإصلاحية» الثقيلة واحدة تلو الأخرى حتى يستقيم العود ويتعافى المريض . كان الرئيس السابق ايليسكو ثاقب النظر متكئاً على فريق من المُجربين المهرة ، و الرائين الكبار، ولهذا السبب سارت الأمور باتجاه التعافي السريع قياساً بأزمنة التحولات، فقد أصبح التداول السلمي للسلطة أمراً مفروغاً منه، وعادت دورة الانتعاش للاقتصاد الداخلي، فيما تراجعت النتوءات المالية الطفيلية لصالح التكامل مع المؤسسات الاستثمارية الدولية الجادة، وحاولت رومانيا قدر استطاعتها أن تحافظ على خط معتدل، غير أن أحداث سبتمبر ، ونظرية «من ليس معنا فهو ضدنا» التي أعلنها بوش ، والبراغماتية الأمريكية الداعمة لولوج عشرة بلدان شرق أوروبية إلى حلف شمال الأطلسي. كل هذه المسائل قوّت من شوكة اليمين الروماني الذي أصبح أمريكياً أكثر من الأمريكيين، فيما باشرت رومانيا عملاً مشاركاً في حرب العراق ، وأخيراً وليس آخر، انفجرت الفضيحة المدوية الخاصة بالسجون السرية الأمريكية في أوروبا الشرقية، وكانت رومانيا وبولندا في مقدمة المُتهمين باستضافة هذه السجون إلى أن يثبت العكس . هكذا إذن انحسر الاستقلال مرة أخرى، وغاب التقليد التاريخي أمام جبروت الأقوياء، فكما أن الحكم الاشتراكي السابق أخفق في التمرد على موسكو، يخفق الليبراليون الرومان الجدد في التمرد على عدمية الإدارة الأمريكية بزعامة “ دراكولا “ العصر بوش الابن .