لم يكن من قبيل المصادفة، ولا من المستغرب أن تبيت بعض القوى السياسية اليمنية الحاقدة والمأزومة الثاوية وراء بعض الأفراد المعوزين وذوي الحاجات والمطالب الشعبية والقضايا الحقوقية المشروعة النية من أجل تجديد الدعوة إلى إثارة القلاقل والدعوة إلى الشغب وزعزعة الأمن والاستقرار في العديد من المحافظات اليمنية، ومحاولة تعطيل دوران عجلة التنمية لزيادة الضغط الشعبي على الحكومة والسلطة وإحراجها أمام شركاء التنمية من المانحين والمؤسسات الدولية الداعمة لجهود التنمية والإصلاح السياسي والإداري والمالي. ما نستغربه حقاً، أن تلجأ بعض تلك القوى إلى إثارة تلك النعرات والقلاقل الطائفية والمناطقية، ورفع الدعوات الانفصالية في بعض المناطق والمحافظات اليمنية مستفيدة ومستغلة تسامح السلطة معها ودعوات فخامة الأخ الرئيس علي عبدالله صالح وآخرها ماجاء في خطابه بمدينة عدن يوم التاسع والعشرين من نوفمبر الحالي بمناسبة الاحتفال بذكرى عيد الاستقلال المتكررة للحوار وطي صفحات الماضي ومعالجة كل الآثار المترتبة عنها، وإعلانه أكثر من مرة العفو عن كل من أساء إلى الوطن ووحدته وأمنه، وإليه شخصياً، وكأن لسان حال البعض منها يردد القول:«إن أكرمت اللئيم تمردا». وما نأسف له أكثر، هو الهجمة العنيفة والشرسة التي تتعرض لها الثورة اليمنية المجيدة بكافة رموزها النضالية، وبكل محطاتها الكبرى سبتمبر وأكتوبر ونوفمبر، بل لم تسلم من ذلك حتى الوحدة اليمنية بوصفها أبرز المنجزات العظيمة لشعبنا اليمني، في الوقت الذي يحتفي فيه شعبنا اليمني بالذكرى الخامسة والأربعين لثورة السادس والعشرين من سبتمبر، والرابعة والأربعين لثورة الرابع عشر من أكتوبر، والأربعين لنيل الاستقلال، التي تؤرخ لذكرى رحيل آخر جندي للاحتلال الانجليزي من جميع محافظاتنا جنوب الوطن. ومن المعلوم اليوم للجميع أن هذه الهجمة العنيفة والشرسة والمخططة التي يشنها البعض تأتي تنفيذاً لأجندات خارجية في إطار ما يسمى «الفوضى الخلاقة، أو الهدامة بمعنى أصدق»، أو تلبية لمطامع سلطوية انتهازية ومصلحية، وحنين مرضي يصور لأصحابه أن عودة الماضي التشطيري البغيض كفيلة بعودتهم إلى واجهة الحدث السياسي، ولو من باب سفك الدماء وتقديم القرابين من أبناء الشعب اليمني لسادتهم المبجلين، وهي تستهدف الخلط المتعمد والتشويش المفضوح لوعي المواطنين اليمنيين وخاصة من جيل الثورة وشباب الوحدة، ومحاولة التفريق بين الثورتين «أو بمعنى أدق الثورة اليمنية»، والتشكيك في واحديتها، في محاولة رخيصة ومفضوحة لإنعاش الروح الانفصالية التي نمت مع التشطير، وجعلت لفترة طويلة من الزمن من اليمن الواحد يمنين ومن الجيش جيشين ومن العلم علمين. مع أنها لم تتمكن بشهادة الأعداء قبل الأصدقاء من جعل الشعب اليمني شعبين، ولم تستطع تشويه وطمس حقائق التاريخ التي تقر بواحدية الحركة الوطنية اليمنية وواحدية النضال، وامتزاج الدم اليمني الواحد على امتداد الأرض اليمنية الطاهرة، ولعل واحدة من الحقائق التاريخية الثابتة التي لا يختلف حولها اثنان، هي أن ثورة السادس والعشرين من سبتمبر، استفادت من الدعم المعنوي والمادي الذي حصلت عليه من المناضلين ورجال الحركة الوطنية من أبناء الشعب جنوب الوطن اليمني، كما أنها ساهمت بدورها في خلق بيئة وقاعدة مناسبة لانطلاق ثورة تحرير جنوب الوطن، والعلاقة بين الثورتين علاقة أزلية عميقة عمق امتداد الحضارة اليمنية في التاريخ الإنساني، وراسخة رسوخ جبال اليمن، وواضحة وضوح أهداف الثورة اليمنية الباسلة الستة، عمدتها دماء المقاتلين الزكية التي سالت واندمجت على ثرى هذه الأرض الطاهرة. والواقع، كما يلمح إلى ذلك العديد من المؤرخين والباحثين لحدث الثورة اليمنية والحركة الوطنية، أن الثورة اليمنية «سبتمبر» انطلقت من فكرة ثاقبة مفادها أنه لم يكن بإمكان انتصار الثورة في شمال الوطن على السلطة المستبدة، وتثبيت دعائم النظام الجمهوري الوليد إلا بتحرير الجنوب من الاستعمار، وعزز من هذه القناعة حقيقة أن المحتل البريطاني كان يشكل عدواناً متواصلاً على ثورة سبتمبر لضمان تكريس احتلاله للجنوب. لقد هيأت ثورة سبتمبر الظروف المناسبة، وخلقت الفرص المواتية لقيام الثورة في الجنوب، وهي الظروف التي كانت تفتقر إليها الحركة الوطنية اليمنية عموماً، وتلك المتواجدة في عدن بصورة خاصة، إذ وفرت معسكرات التدريب للمقاتلين عبر التطبيق العملي للقتال مع فلول الملكيين، وتجنيد المتطوعين لقتال الانجليز، ووفرت الأسلحة والدعم اللوجيستي اللازم للمقاتلين، والأهم من كل ذلك وفرت العمق الاستراتيجي المناسب لاجتماعات القيادات السياسية التي تقوم برسم الخطط وإعادة تنظيم الصفوف والانطلاق للقتال من جديد، وكذا هيأت الدعم السياسي لقضية تحرير جنوباليمن، وهي العوامل التي ما كان بإمكان الثورة اليمنية في جنوب الوطن النجاح بدونها، وابتداء من الرابع عشر من أكتوبر 1963م، انطلقت جهود التحرير لجنوب الوطن عملاً بالهدف الأول من أهداف ثورة 26سبتمبر، الذي عد القضاء على الاستعمار في الجنوباليمني مهمة عاجلة استكمالاً لجهود الثورة اليمنية، وهو ما تأتى للمجتمع اليمني في 30نوفمبر 1967م، حيث أعلنت بريطانيا انسحابها من عدن بعد احتلال دام 129سنة كاملة. المؤكد أننا لو عدنا كما يشير أستاذنا الدكتور عبدالعزيز المقالح اليوم إلى المواطن اليمني العادي والبسيط والبريء من كل معايير الانتقاء والعشوائية، والخالي من كل عقد الانتقاص لمنجزات الآخرين وتعظيم الذات، التي تطبع العديد من القوى السياسية اليمنية، لوجدناه ينظر إلى الثورة اليمنية كنهرٍ هادرٍ عظيم واحد منابعه الصافية وبداياته الأولى سبتمبر وأكتوبر، ومحطته الفارقة يوم الثلاثين من نوفمبر 67م، 89، وأفقه الواسع الانتصار الأكبر الذي تحقق للشعب اليمني بإعادة لحمته ووحدته يوم الثاني والعشرين من مايو 1990م. ولذا ما أشد الحاجة اليوم إلى تركيز إعلامنا الرسمي والحزبي والمستقل، ومثقفينا وسياسيينا باختلاف مشاربهم الأيديولوجية على هذه الرؤية الموضوعية بوصفها المدخل الطبيعي للحفاظ على اليمن الواحد الموحد، وتذكير شبابنا اليمني بتاريخ ومسيرة الكفاح والنضال الوطني لحركة التحرر الوطني من أجل التخلص من ربقة الحكم الاستبدادي في شمال الوطن، وإجلاء المستعمر من جنوبه، وصولاً إلى تحقيق الوحدة اليمنية في الثاني والعشرين من مايو. فالتاريخ كما يرى المفكر العربي المغربي محمد عابد الجابري، في كتابه: المغرب المعاصر، الخصوصية والهوية.. الحداثة والتنمية، 1988م:181 «.. لا يكتب مرة واحدة، بل تعاد كتابته باستمرار تحت إيحاء أو ضغط أسئلة يلقيها الحاضر على الماضي..، ويتساءل الجابري عن أسباب التفكير الآن في كتابة أو إعادة كتابة تاريخ الحركة الوطنية ببلادنا؟». ويعتقد الجابري أن طرح هذا السؤال بصراحة سيمكن المؤرخ من التماس «حل مرض»ٍ في الوقت الحاضر لقضايا أساسية، أو لتحديات وإكراهات تجابه المجتمع وتعيق تقدمه. فما أحوجنا اليوم إلى إعادة كتابة تاريخنا اليمني، وتدوين تاريخ نضال الحركة الوطنية اليمنية من أجل الوصول إلى تلك الغاية النبيلة، بنفس الروح العلمية والموضوعية من أجل البحث عن حلول ناجعة للقضايا التي يطرحها علينا واقعنا المعاصر، وتفرضها علينا التحديات المتعاقبة، من أجل تحصين شعبنا وشبابنا ضد آفة النسيان والاختراق الثقافي وتشويه الحقائق التاريخية.