تماماً كما توقعت بدا لي كتاب الصديق الجزائري محمد حسين الطلبي انعكاساً لمرايا دواخله الشفّافة بقدر إقامتها المديدة في هموم الأُمة، فالأخ الطلبي ليس من مثقفي الساعات العابرة ومطاردي السحب المسافرة ممن كان ديدنهم المخاتلة والمواقف المتداعية مع هبوب الرياح، بل إنه ضمن ذلك النفر الطيب من الذين يقبضون على جمرة الرأي ثباتاً وتسليماً باستتباعاتها، وهكذا ينعكس في كتابه الجديد “ بوح المغاربة والمشارقة “، فالكتاب بوح صادق صريح، وهو إلى ذلك تطواف في ثنائية المشرق والمغرب العربيين .. تلك الثنائية “ الإجرائية “ المحكومة بعامل الجغرافيا الطبيعية أبعد ما تكون عن ثنائية في الهوية، فالمشرق والمغرب العربيان حالة من التماهي التاريخي الذي انعكس وينعكس في كامل الصروح الثقافية المعرفية التي تبرر عبقرية الانتماء وواحدية الهوية، وأهمية التاريخ القابع في أقاليم الزمان والمكان، مما تأكد بنصوع، ذلك أنه وبالرغم من الاستعمار الفرنسي للجزائر، لم “ تتفرْنس “ الجزائر بل ازدادت غوصاً في هويتها العربية الإسلامية مما نراه شاهداً أمامنا إلى يومنا هذا، والحقيقة أن الجغرافيا الثقافية المغاربية العربية أصبحت تمثل اليوم جواباً شرطياً ووجودياً لأكثر أسئلة الحيرة والقلق والثقافة والفنون في طول وعرض العالم العربي، فالمساهمات المغاربية سرداً وشعراً وفكراً وفناً تشكل اليوم قيمة استثنائية في أُفقي التجديد والتأصيل معاً . في “ بوح المغاربة والمشارقة “ يقف المؤلف أمام سلسلة من الموضوعات التي تنتظم ضمن رابط أساسي مداه القلق الوجودي والمعرفي الذي يحيط بالعرب المعاصرين، وتتموسق تلك السطور مصحوبة بعلم جمال الدلالة، مما ينعكس في البُعدين المفاهيمي الدلالي لكامل المقالات المنشورة كما لو أنها دفاتر أيام تُحاصرنا وتقض مضاجعنا، وتُحفّزنا للإجابة . يتوقف الكاتب أمام مفردات تطال حال الأُمة وأسباب ضعفها، فيفرد مرئياته حول مسائل كالفكر القومي، كاشفاً بؤرة الإشعاع النهضوية التي بادر إليها المسيحيون العرب أمثال الراحل ميشيل عفلق الذي كان مسيحياً مسلماً بامتياز، وفي أُفق آخر تتكشّف الصفحات عن قراءة للعلاقة بين الأنا والآخر مع إطلالة أساسية على رؤى المركزيين الجدد أمثال “صموئيل هنتنغتون” الذي سار على درب رفيقه “ فوكوياما” بوصفهما مُبشرين بجنة الرأسمالية الأمريكية التي ستمثل النهاية المثالية للجنان الأرضية، وستُخلي سبيل الماضي بوصفه دهراً من التخلف والهمجية، وسينتهي ذلك الزمان بسطوع فجر “ الأمركة “ الكونية. لكن فوكوياما وهنتنغتون نسيا أن طوباويات المنظرين الواعدين بالمجتمعات الألفية الفاضلة كانت تعد بالخير عن طريق العدل، لا الرخاء عبر الحروب والوحشية النيتشوية الأمريكية. أمّا الوعود التي تساوقت مع رسائل الأنبياء والصالحين فقد كانت تعد بجنة أُخرى لا مكان لها في هذه الدنيا الفانية، فبماذا يعد هنتنجتون وفوكوياما ؟؟. لم تمرسنوات قليلة على صواعق هنتنغتون القائلة بصراع الأديان والحضارات إلا وانفجرت حروب كونية تقودها الولاياتالمتحدة ومن يقف خلف مؤسساتها اليمينية من قوى خفائية غامضة، ولم تمر أشهر أخرى على استرخاء فوكوياما الطوباوي الهيغلي إلا وانكشفت عورة الوحشية الرأسمالية في طورها الجديد والمتجدد .