المدرسة الفلسفية المادية الأوروبية تناولت ظاهرة العنف في التاريخ على مستويين: المستوى الأول وكان قريناً بالمادية الميكانيكية والتي كان على رأسها الفيلسوفان الألمانيان "هيغل وباخ" واللذان تناولا ظاهرة العنف والتاريخ من خلال رؤيتهما الفلسفية القائلة: "إن المشيئة الإلهية سابقة على أفعال البشر، وإن مقتضيات الخير والشر ناموس أبدي في الكون، وإن القوانين المادية البرهانية ليست مفصولة عن المشيئة الإلهية، بل هي ترجمة أمينة لها". كان هيغل وفورباخ يعتقدان أن كل القوانين الموضوعية التي تتمظهر في الطبيعة والكون ليست في نهاية المطاف إلا تعبيراً عن الإرادة الكلية للخالق. ومن طرائف الأيام أن المفكر الأمريكي "فوكوياما" انطلق من قوانين الجدل المادي الهيغلي وهو يبرر سرمدية النموذج الأمريكي الذي تبلور بصورته الصاعقة بعد نهاية الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفيتي، ذلك أن فوكوياما رأى بأن هذا النموذج يتساوق من جهة مع القوانين الموضوعية، كما يتوازى مع المشيئة الإلهية السابقة على تلك القوانين. فوكوياما الذي كرر مقولة نهاية التاريخ مُبشراً بألفية جديدة، كان ككل المبشرين بالمجتمع المثالي الذي يحقق الحرية والوفرة في آن واحد، لكن ظنه خاب سريعاً، فقد كشفت الرأسمالية الأمريكية المتوحشة عن وجهها الأكثر قبحاً، ونزعتها العسكرية الشاملة، فإذا بفوكوياما يتراجع عن مقولاته السابقة، بل يعتذر عنها بعد أن اكتشف أن مثاليته الهيغلية لا تتناسب مع البراغماتية النيتشوية الأمريكية المددجة بتواريخ من العنف الأسود والقتل المجاني. استوعبت المقولة المركزية الهيغلية العنف بوصفه ترجمة واعية لحقيقة أزلية محكومة بغائية سابقة على الإدراك والمحاصرة، وكانت الهيغلية بهذا المعنى أشبه ما تكون ببعض تيارات الكلام الإسلامي ممن اعتبروا الظواهر بخيرها وشرها تقديراً سابقاً على الإدراك والمحاصرة المعرفية البشرية، وذلك انطلاقاً من قصة الخضر وموسى عليه السلام، فقد منح الله الخضر علماً لدنياً، فيما كان موسى عليه السلام يستنكر ما يفعله الخضر بقتله الغلام وخرقه السفينة. [email protected]