ما من تجربة طليعية إلا وتأسست على مقدمات صنعها الطليعيون ممن صانعوا في أمر النوع الفني واستوعبوه ودرسوه، وأعملوا الخيال والتجربة معاً، وهكذا فعل المخرج الروسي الكبير «ايزنشتين» في أول تجربة مونتاج سينمائية في وقت مبكر من تاريخ السينما، وكانت تلك التجربة غير المسبوقة قائمة على سبر للفنون البصرية والسردية، بل على انفتاح تساؤلي قلق جعله يوظف كامل معارفه الشخصية للوصول إلى مايسمى تقطيع اللقطات، وإعادة تركيبها ضمن توليفة تبحث في «المونتاج الذهني» وتحيله إلى منطق بصري جديد يتلاعب بالأزمنة والأمكنة ويخل بالتراتب المعهود في الزمن السينمائي. هل كان لايزنشتين أن يفعل ذلك لولا ثقافته الشاملة واستعارته لأدوات معرفية وذوقية فاضت به إلى تخوم المنطق البصري والتركيبي للغة اليابانية كيما يصور فيلم «المدرعة بوتمكين»؟ كتب في مذكراته قائلاً : إن دراسته للغة اليابانية ومنطقها الشكلاني في الكتابة ألهمه فكرة المونتاج. في ذلك الفيلم ابتكر ايزنتشين المونتاج، وصور تدافع الجنود على السلالم الطويلة عبر تقطيع اللقطات وإعادة تركيبها، وفي مذكراته الشخصية التي أعاد فيها تصوير جوهر الفكرة قال إنه تذكر تفاحة عالم الفيزياء الذي اكتشف الجاذبية الأرضية لحظة مشاهدته لتفاحة تسقط من شجرة! وهكذا فإن التدافع «المونتاجي» للجنود جاء إثر رمية لحجرة تدحرجت على السلالم فأوحت للمخرج بالفكرة. وفي السينما أيضاً قام المخرج الايطالي الطليعي «فيسكونتي» بأول تجربة سينمائية تراجع البناء الدرامي التقليدي للنص السينمائي، فكان عمله الذي تحول إلى محطة تجريب وتجديد في السينما العالمية «روكو واخوانه» حيث اعتمد فيه فيسكونتي على توازي السير الذاتية، وتداخل الأزمنة والأمكنة، فأفسح المجال لتوليفة درامية دائرية لا تقطع الحدث بحسب المنطق الدرامي التقليدي، بل تتحرى استمرارية الحياة وتقلباتها ناظراً للحالة البشرية باعتبارها قدرية، تحولية، وعميقة في مفاجآتها، وفي الحقيقة.. هكذا هي الحياة تفرق المجتمعين وتجمع المتفرقين، تعقد مقابلاتها الاكروباتية بين ماكان وبين ماسيكون، هل كان لفسكونتي أن يتنطع ويجرب لو لم يكن عليماً بأدواته الموصولة بثقافة بصرية ودرامية شاملة؟!