أضرب هنا بعض الأمثلة الدالة على خطورة وإشكالية التجريب الفني الإبداعي، وسنرى من هم الذين يجرؤون على هذا التنويع التجديدي الباحث عن أسلوب جديد، والمفارق للمعلوم والمعروف من ثوابت الأبنية الدرامية واللحنية والبصرية. عندما تجرّأ المخرج الإيطالي «فلليني» على مفارقة النسق التقليدي في الإخراج متجاوزاً تراتبية «الفكر السيناريو، التصوير، الإخراج، المونتاج» في فيلمه المعروف باسم «روما فلليني» لم يكن فلليني متنطعاً ومجدّفاً في التجريب، بل كان رائياً لما يفعل وهو المثقف والفنان الشامل والسينمائي المجرّب الذي خبر تناويع الفعل الإبداعي وتفاصيله ممارسة ودرساً، وكان إلى ذلك مفعماً بثقافة بنائية فنية سواء في الأدب أم الفنون المختلفة، الأمر الذي ساعده على التصوير المباشر لإيقاع مدينته «روما» وهو يحمل في دواخله التصوّر الذهني الواضح لمصائر ذلك التصوير «العشوائي» ولكن المحكوم برؤى ومفاهيم ذهنية تستبق التصوير والسيناريو والفكرة وتقدّم حالة من التمفصلات الدرامية المسافرة على بساط الكاميرا الحية. كان فلليني يدرك تماماً عبء المهمة وثقل المسؤولية؛ لكنه غامر من موقع العارف الممتلئ لا الاستنسابي الخفيف. في السينما أيضاً قدّم المخرج الروسي الكبير «ايزنشتين» أول تجربة سينمائية مونتاجية في وقت مبكر من تاريخ السينما، وكانت تلك التجربة غير المسبوقة قائمة على استسبار للفنون البصرية والسردية، بل على انفتاح تساؤلي مقلق جعله يتمثّل كامل معارفه الشخصية للوصول إلى ما يسمّى ب«تقطيع اللقطات» وإعادة تركيبها ضمن توليفة تبحث في «المونتاج الذهني» وتحيله إلى منطق بصري جديد يتلاعب بالأزمنة والأمكنة ويخلُّ بالتراتب المعهود في الزمن السينمائي. هل كان لايزنشتين أن يفعل ذلك لولا ثقافته الشاملة واستعارته أدوات معرفية وذوقية فاضت به إلى تخوم المنطق البصري والتركيبي للغة اليابانية كيما يصوّر فيلم «المدرعة بوتمكين»..؟!!. وفي السينما أيضاً قام المخرج الإيطالي الطليعي «فيسكونتي» بأول تجربة سينمائية تراجع البناء الدرامي التقليدي للنص السينمائي، فكان عمله السينمائي الذي تحوّل إلى محطة تجريب وتجديد في السينما العالمية «روكو وإخوانه» حيث اعتمد فيه فيسكونتي على توازي السير الذاتية، وتداخل الأزمنة والأمكنة، فأفسح المجال لتوليفة درامية دائرية لا تقطع الحدث بحل جاهز، بل تتقرّى استمرارية الحياة وتقلباتها رائياً للحالة البشرية باعتبارها حالة قدرية، تحولية، وعميقة في مفاجآتها. وفي الحقيقة.. هكذا هي الحياة تفرق المجتمعين وتجمع المتفرقين، تعقد مقابلاتها الأكروباتية بين ما كان وبين ما سيكون، هل كان لفسكونتي أن يتنطّع ويجرّب لو لم يكن عليماً بأدواته الموصولة بثقافة بصرية ودرامية شاملة..؟!. [email protected] رابط المقال على الفيس بوك