ما أكثر الجنايات التي تمارس باسم الفن! وما أسوأ اللعبة الفنية التي تبتذل الفن تحت مختلف الذرائع والمسميات! حتى تحول الفن في هذه الأيام إلى ضرب من التجديف المخل تحت مسمى الإثارة والحداثة، فلم تعد الفنون المتكاثرة قائمة على امتلاك فيوضات معرفية في النوع الفني المحدد، بل أصبحت غواية اعتيادية تستجدي استكتاب النقد الانطباعي تارة، وإرضاء الدوائر المتاجرة بالفن تارة أخرى، وفي نهاية المطاف يدفع الفن والأدب الثمن الباهظ لهذا النوع من الممارسة الاستنسابية المتساهلة، التي تنم في آن عن مشكلة حقيقية في الأدب والفن. سنلاحظ مثل هذا الأمر في مختلف وسائل إنتاج وإعادة إنتاج المعرفة الفنية الثقافية، ابتداءً من فضائيات الفيديو كليب، مروراً بالمسرحيات التي تتوسل الضحك بأي ثمن، وحتى برامج المنوعات التلفزيونية التافهة. ذات الأمر يستمر أيضاً في الشعر والرواية والقصة القصيرة والترجمة، حيث ينبري للفعل الثقافي من ليس مؤهلاً له، وتكثر النبتات السقيمة وراء ركام من كتابات النقد الانطباعي المتساهل. إننا بصدد تيار جارف للتخريب الفني الثقافي الملغوم بايديولوجيا التسطيح والتطاول على المعارف الفنية الأكاديمية والتنطع على تراث الكبار ممن أصلوا وجربوا ،عرفوا وعرّفوا ووصلوا إلى امتلاك أدوات الفن والتعبير بعد صراع مرير مع الذات والموضوع، فأين نحن منهم؟! أضرب هنا بعض الأمثلة الدالة على خطورة وإشكالية مايجري، وسنرى من هم الذين يجرؤون على هذا التنويع التجديدي الباحث عن أسلوب جديد، والمفارق للمعلوم والمعروف من ثوابت الأبنية الدرامية واللحنية والبصرية. في السينما تجرأ المخرج الايطالي «فلليني» على مفارقة النسق «التقليدي» في الإخراج، متجاوزاً تراتبية «الفكر/السيناريو/التصوير/الإخراج/المونتاج». في فلمه المعروف باسم «روما فلليني» لم يكن فلليني متنطعاً ومجدّفاً، بل كان رائياً لما يفعل، وهو المثقف والفنان الشامل، والسينمائي المجرب الذي خبر تناويع الفعل الإبداعي وتفاصيله ممارسة ودرساً، وكان إلى ذلك مفعماً بثقافة بنائية فنية سواء في الأدب أو الفنون المختلفة، الأمر الذي ساعده على التصوير المباشر لإيقاع مدينته «روما» وهو يحمل في دواخله التصور الذهني الواضح لمصائر ذلك التصوير «العشوائي» ولكن المحكوم برؤى ومفاهيم ذهنية تستبق التصوير والسيناريو والفكرة وتقدم حالة من التمفصلات الدرامية المأخوذة ببساط الكاميرا الحية.