إن ما يجري في الساحة الثقافية اليوم وما يثار من قضايا يصيب العقل بالتبلد، هناك من يريد إرجاع عجلة الزمن إلى الوراء، بل هناك من يحاول استرجاع زمن الخلافة الغابر، ويحلم بقيام الدولة الدينية، ويمنعون أي حديث عن الحرية والعدل والمساواة والوطن والمواطنة. ونحن نستغرب صمت وتخاذل أحزاب اللقاء المشترك تجاه من يحاولون تشويه المكاسب التي انتزعها المواطن اليمني عبر ثورته المباركة التي قضت على الدولة الدينية التي كان يجسد ظل الله فيها الإمام. وها نحن أمام عصابة تحاول تصوير الأمر على أنه صراع بين الدين والمجتمع، ويحولون الدين إلى طقوس تخدم أفكارهم وتحافظ على بقائهم، ويتجاهلون أو يجهلون أن الدين هو طاقة حافزة نحو العمل والإبداع، وليس توظيفه لخدمة أغراضهم السياسية. لقد تحول الإسلام على أيدي هؤلاء إلى خلطة للعريس تحفز الجنس وتجعلهم يلتهمون الأجساد ليثبتوا فحولتهم، ثم يلهون الأتباع بالنواح والبكاء والعويل . إن البلاد تعيش في مفترق طرق، وعلى المثقفين أن يختاروا إما الحفاظ على البقية الباقية من قيم الاستنارة التي أرستها الثورة، وإما ترك البلاد فريسة لدعاة الظلام. إن الأحزاب القومية واليسارية المنضوية تحت ما يسمى «اللقاء المشترك» مدعوة للوقوف إلى جانب القوى الديمقراطية الحريصة على مكتسبات العقل، وأن تتمسك بخطوات الإصلاح الديمقراطي من أجل الحفاظ على حقوق المواطنة وحرية الوطن الذي لا يفرق بين أبنائه، فالدين لله والوطن للجميع. على الجميع أن يدرك أن التاريخ لا يتكرر بشخوصه وأحداثه، وأن عجلة الزمن تسير إلى الأمام ولا يمكن أن تعود إلى الخلف. إننا أمام إشكالية جوهرية تتمثل في هؤلاء الذين أصبحوا يتفنون في كل صغيرة وكبيرة وهم لم يتخلصوا بعد من الأوساخ العالقة في ملابسهم الداخلية، ثم هم يستدعون الدين لصالح مشروعهم السياسي، إنهم ما برحوا ينتقدون الحكام والنظام ويدعون لإصلاحه وتجاوزه ولكن عن طريق استعادة سير السلف الصالح تحت شعار «القرآن دستورنا» أو «الإسلام هو الحل». إننا أمام تيار سلفي لا يقدّر الظروف الموضوعية التي تختلف بطبيعة الحل من مجتمع لآخر، ويقطعون الطريق على من ينادي بالعلمانية التي تعتبر في نظرهم كفراً وإلحاداً، فهم يجهلون أن العلمانية تعني في أبسط الأمور صياغة القوانين من واقع الظروف الموضوعية، وتغييرها أيضاً تبعاً لتغير الظروف، في ضوء قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «أنتم أدرى بشئون دنياكم» وهذا النهج العلماني هو ما حدث في حضارة الغرب، ولم يحدث أن توقفت الكنائس أو المعابد حتى في زمن الاتحاد السوفيتي الذي كان يعتنق الشيوعية. إن العلمانية هي الحل، لأن المنطقة أصبحت تحتكم الآن إلى إسلامين: إسلام سني، وإسلام شيعي، غير أن كلاً من المذهبين ترقد تحتهما عشرات الجماعات التي تؤوّل كل بطريقتها فهمها للإسلام وللحقيقة، وها نحن أمام انقسام على أساس المذهب، وهذا الانقسام قد أدى إلى اختفاء التسامح حيث يسعى كل طرف للقضاء على الطرف الآخر. لابد من الصحوة المبكرة والدعوة إلى وحدة الوطن وتأسيس السياسة على أساس المصالح العامة للوطن، وليس للدين، فالدين ليس بكافٍ وحده ليجمع بين الأمم؛ إذ لا يجمع بين الناس سوى المنافع، فالدين ليس هو الرابطة الحقيقية بين الشعوب، فنحن نرى دولاً إسلامية تحارب بعضها، ونرى قبائل تقاتل بعضها بعضاً دون أن يكون للإسلام أي دور في حل مثل ذلك، بل إن القبائل تحتكم للعرف ولا تحتكم للدين. وعلى هذا فإن الوطن يتأسس على المصالح والمنافع واللغة الواحدة، وليس على أساس المعتقد الواحد، والوطن هو الذي تقوم العلاقات بين أبنائه على أساس القانون الذي يراعي الحدود ويحفظ الحقوق دون تمايز على أساس العرق أو الدين وتحكم أبناءه التقاليد المشتركة. نحتاج إلى مزيد من حرية التعبير وتحقيق المواطنة المتساوية أمام القانون دون تفريق أو تمييز، والعمل على أن يصبح القانون مسطرة على الجميع دون استثناء حفظاً للتوازن الاجتماعي، فنحن أمام هجمة العولمة والسوق الحر الذي لا يعترف إلا بالمواطن الحر ولا ينتعش بالدين، بل بالعمل. إننا نعاني مشكلة استدعاء الدين في السياسة وذلك يعد أحد إشكالات النظر في واقع الأمور. خلاصة القول: يجب فصل الدين عن السياسة؛ لأن الدين غيبي سماوي مقدس له غايات ومقاصد أخلاقية، أما السياسة فهي «فن الممكن» الذي يستهدف تحقيق المصالح الدنيوية. لقد فطن ابن قتيبة لمسألة توظيف الدين لخدمة السياسة في كتابه «الإمامة والسياسة» وقال: “لو كانت الخلافة خطة دينية لما اختلف الصحابة بصددها وهم أفقه الخلق بأمور الدين”. نحن قادمون على تطرف ديني من قبل جماعات تعول على العنف والتكفير، بسبب خلط الدين بالسياسة، فقد أصبح كل خطباء المساجد يحرضون على أشياء ليست من اختصاصهم ولا هم من أصحاب الفكر حتى يخوضوا فيها، لنتجه نحو ما أنتجته عقول البشرية في العلم والحكم.