لا يسافر المتحرك فقط بل الواقف أيضاً، وتلك المتوالية تتمظهر في سيرة الشجرة التي وبرغم خصوبة تفاعلها مع الهواء والماء والتراب والحرارة والبرودة والرطوبة والجفاف لامفر لها من اجتياز المسافة إلى الحقيقة، فمن براعم صغيرة طرية إلى ذروة الفتوة والجمال والعطاء، ثم الشيخوخة فالفناء الذي ينطبق عليه التشبيه الإلهي المرصود في كتاب الأبدية .. قال تعالى : «والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم ، لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون » . تنبثق الشجرة من المعطيات الطبيعية المودعة في الكون، فالماء والتراب والهواء والحرارة يتفاعلون في مكونات هذا الكائن المتسامق الجميل، وتتنوع الأشجار بتنوع بيئاتها، وتتموسق بألوان الطبيعة، وتسافر في معارج الفصول والأيام، سفراً دائماً متجدداً، وتشمخ برؤوسها صوب الأعلى، فيما تنغرس بجذورها في أعماق الأرض لتقول لنا: إن " الغائب " أهم من " الحاضر "، ولتقول لنا أيضاً أن المرئي " الجذور " سر اللامرئي " الجذع والأفرع والأغصان والأزهار والثمار "، وإن تلك الثمار والزهور والأغصان مُحصلة نهائية لما قبلها، وأن توالي حيوات الشجر يتصل بتلك البذور المائتة والخارجة من أصل الثمرة لتؤكد مرة أُخرى إن الموت ليس إلا انتقال من حياة أولى لحياة برزخية أشمل. قال تعالى: (مثل كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أُكلها كل حين بإذن ربها) . تتهادى الشجرة مع الأنسام، وتقف أمام المروج والعواصف والتقلبات شاهدة على الحال المآل، وتباشر حضورها " الأُفقي .. الرأسي" في أزمنة البهاء والزرقة والجمال، وتتمنطق سحر الأيام وخرافات الليالْ، وكأنها في ثباتها الدائم وتحولها المستمر تتمازج مع ديناميكية الحياة، ولا تقل مثابة عن خيول البراري والقفار الشاردة. الشجرة ثابتة واقفة لكنها تتحرك مرتين : مرة لأنها تدور مع دوران الأرض ككل ماعلى هذه الأرض، وهي فيما تقوم بهذه الدورة اليومية " الأرض تدور حول نفسها "، والسنوية" الأرض تدور حول الشمس ، تتفاعل تلك الشجرة مع الفصول الأربعة، فتحيا طوراً وتموت أخرى، كما أنها تدور في ذاتها لأن مايعتمل في دواخلها من تفاعلات هو بمثابة إعادة إنتاج لذات الدورة الفلكية الضابطة لميزان الكون، لكن الأمر يتعدى ذلك الى تبادل أدوار بين المتحرك والثابت مما سنأتي عليه