لا يتحول سائر القول إلى مأثور بغير حكمة ثابتة، وفي اليمن مثل يقول : «لا تأمن الدولة ولو كانت رماد»، لو استلهمه خصوم السلطة لأدركوا كم المسافة التي تفصلهم عن كرسي الحكم، وأي حال عليها اليمن الآن !! لا ريب في حق كل القوى الوطنية في التطلع إلى الحكم، وإلا ما جدوى التعددية، غير ان القفز فوق الواقع قد يعيد لذاكرتنا حقبة «الفوضى الثورية» التي عاشتها القوى الوطنية بعد الثورة السبتمبرية وتطلع فيها الجميع إلى سلطة بطريقة خاصة، فانتهى الأمر بانقلاب على الرئيس السلال، وانقلاب ثانٍ على القاضي الإرياني، ثم اغتيال خلفه الحمدي، ليعقبه الرئيس الغشمي بحقيبة مفخخة، وإذا باليمن تؤول إلى فراغ دستوري يشفق الجميع في ظله من القبول بالسلطة، بعد ان كان الجميع يتنازع عليها.. فاليمن لم تعرف مفهوم الدولة إلا في عهد الرئيس علي عبدالله صالح الذي استلهم دروس من سبقه من الزعماء، وأيقن ان الثورة لن تستقيم بغير أمور اربعة هي : أولاً عدم القفز على الواقع باستنساخ تجارب الغير، أو بتجاهل ظروف الساحة الوطنية وثانياً : إنهاء الخصومة بين القوى الوطنية، وإيجاد تعايش سياسي آمن يوحد صفوف أبناء الوطن باختلاف مواقفهم وانتماءاتهم، وثالثاً : التحرر من التبعية الخارجية وامتلاك الذات الوطنية ورابعاً : ايجاد تنمية شاملة تنهض بمقدرات البلد، وتطور أساليب عيش أبنائه. إن تلك المرتكزات الاربعة تلخص سر بقاء الرئيس علي عبدالله صالح في السلطة لثلاثة عقود، لأنها أيضاً تلخص أسباب عدم استقرار الحكم في اليمن بعد ثورة سبتمبر وحتى تسنمه مقاليد الحكم.. وبالتالي فإن الاعتقاد بإمكانية انتقال السلطة إلى قوة جديدة من خلال إشاعة الفوضى السياسية، أو تفتيت الوحدة الوطنية، أو بالارتهان لقوى خارجية، أو شل الحركة الاقتصادية والتنموية ماهو إلا ضرب من الجنون، والانتحار السياسي. أما الاعتقاد بأن الأعمال الإرهابية، والفتن التي تثار بين الحين والآخر قد تزعزع الدولة، فإن ذلك أيضاً منطق غير سياسي، لأن وضعاً كهذا يحفز الدولة على تعزيز قدراتها الأمنية والعسكرية، وآليات تعاطيها أيضاً مع الأحداث الداخلية.. غير ان ذلك سيخلف اثراً على الحياة المعيشية للمواطن جراء انعكاسه سلباً على الحياة الاقتصادية .. لكنه أيضاً سيكشف حقيقة مهمة للغاية وهي أن القوة المناهضة للسلطة ليست قوة ديمقراطية وإنما تنتهج العنف، وتؤمن بخيارات غير وطنية ولا إنسانية كونها ترهن نفسها لدوائر خارجية لديها حساباتها الاقليمية أو الدولية، وأخرى عبارة عن عصابات دموية مأجورة، ما تلبث ان تتحول إلى أدوات قمعية بيد أي نظام جديد، إذا ما نجحت في إيصاله للسلطة. في اليمن لا يمكن اطلاقاً لمثل تلك الحسابات ان تفلح في تحقيق نفسها، لأن الدولة لم تعد مجرد كرسي حكم، بقدر ماهي مؤسسات مختلفة : تشريعية، وشوروية، وقضائية، وأحزاب، ومجتمع مدني، ومصالح داخلية، وخارجية، علاوة على التكوينات الاجتماعية، والثقافية، والدينية، وغيرها من العناصر التي يحمل كل منها حساباته واجندته الخاصة.. وبالتالي نجد أن أكبر عيوب خصوم السلطة هو تجاهلهم لهذا الواقع، وتسويق أنفسهم بكثير من الأوهام، للدرجة التي بات فيها البعض يتصور ان خروج مظاهرة في الضالع من مائة شخص هي نهاية الدولة في اليمن، ويبدأ بتوزيع المناصب !! عندما كنت أقرأ صحف ومواقع معارضة، وهي تتحدث عن تحضيرات وانفعالات وتهديدات ليوم السابع من يوليو كان ينتابني القلق على اليمن رغم معرفتي المسبقة بتهويلات ذلك الإعلام.. وحين مر يوم السابع من يوليو هادئاً كأي يوم آخر، أيقنت ان هذا هو الواقع، والحجم الطبيعي للنشاط السياسي المعارض.. والسؤال الذي يفرض نفسه هو : لماذا لا تفكر المعارضة ببناء كيان حقيقي وفاعل في المجتمع؟ فليس من مصلحة اليمن ان تبقى المعارضة مجرد خطابات ومقالات، وأوهام، وممارسات غير مسئولة ضاعفت معاناة الناس.. فقد بدأت بتحريك الشارع وسعر البيضة عشرة ريالات.. وخلال عام من حراكها أصبحت البيضة بخمسة عشر ريالاً، فهل تستطيع إعادتها إلى سعرها القديم، طالما انها تحركت تحت شعار الأسعار والظروف المعيشية للمواطن !!