تضامن حضرموت يحلق بجاره الشعب إلى نهائي البطولة الرمضانية لكرة السلة لأندية حضرموت بفوزه على سيئون    الارياني: مليشيا الحوثي استغلت أحداث غزه لصرف الأنظار عن نهبها للإيرادات والمرتبات    رعاية حوثية للغش في الامتحانات الثانوية لتجهيل المجتمع ومحاربة التعليم    مجلس وزارة الشؤون الإجتماعية والعمل يناقش عدداً من القضايا المدرجة في جدول أعماله    صواريخ الحوثي تُبحِر نحو المجهول: ماذا تخفي طموحات زعيم الحوثيين؟...صحفي يجيب    "مسام" ينتزع 797 لغماً خلال الأسبوع الرابع من شهر أبريل زرعتها المليشيات الحوثية    تشيلسي يسعى لتحقيق رقم مميز امام توتنهام    الصين تبدأ بافتتاح كليات لتعليم اللغة الصينية في اليمن    استشهاد أسيرين من غزة بسجون الاحتلال نتيجة التعذيب أحدهما الطبيب عدنان البرش    المنخفض الجوي في اليمن يلحق الضرر ب5 آلاف أسرة نازحة جراء المنخفض الجوي باليمن    انهيار حوثي جديد: 5 من كبار الضباط يسقطون في ميدان المعركة    نائب رئيس نادي الطليعة يوضح الملصق الدعائي بباص النادي تم باتفاق مع الادارة    نتائج قرعة أندية الدرجة الثالثة بساحل حضرموت    شاب سعودي يقتل أخته لعدم رضاه عن قيادتها السيارة    كان طفلا يرعى الغنم فانفجر به لغم حوثي.. شاهد البطل الذي رفع العلم وصور الرئيس العليمي بيديه المبتورتين يروي قصته    الهلال يلتقي النصر بنهائي كأس ملك السعودية    تعز.. حملة أمنية تزيل 43 من المباني والاستحداثات المخالفة للقانون    أثر جانبي خطير لأدوية حرقة المعدة    توضيح من أمن عدن بشأن مطاردة ناشط موالٍ للانتقالي    أهالي اللحوم الشرقية يناشدون مدير كهرباء المنطقة الثانية    صدام ودهس وارتطام.. مقتل وإصابة نحو 400 شخص في حوادث سير في عدد من المحافظات اليمنية خلال شهر    ضلت تقاوم وتصرخ طوال أسابيع ولا مجيب .. كهرباء عدن تحتضر    قيادي حوثي يخاطب الشرعية: لو كنتم ورقة رابحة لكان ذلك مجدياً في 9 سنوات    الخميني والتصوف    نجل القاضي قطران: والدي يتعرض لضغوط للاعتراف بالتخطيط لانقلاب وحالته الصحية تتدهور ونقل الى المستشفى قبل ايام    انهيار كارثي.. الريال اليمني يتراجع إلى أدنى مستوى منذ أشهر (أسعار الصرف)    إنريكي: ليس لدينا ما نخسره في باريس    جماعة الحوثي تعيد فتح المتحفين الوطني والموروث الشعبي بصنعاء بعد أن افرغوه من محتواه وكل ما يتعلق بثورة 26 سبتمبر    جريدة أمريكية: على امريكا دعم استقلال اليمن الجنوبي    محلل سياسي: لقاء الأحزاب اليمنية في عدن خبث ودهاء أمريكي    بن الوزير يدعم تولي أحد قادة التمرد الإخواني في منصب أمني كبير    الرئيس الزُبيدي يُعزَّي الشيخ محمد بن زايد بوفاة عمه الشيخ طحنون آل نهيان    15 دقيقة قبل النوم تنجيك من عذاب القبر.. داوم عليها ولا تتركها    أولاد "الزنداني وربعه" لهم الدنيا والآخرة وأولاد العامة لهم الآخرة فقط    خطوة قوية للبنك المركزي في عدن.. بتعاون مع دولة عربية شقيقة    سفاح يثير الرعب في عدن: جرائم مروعة ودعوات للقبض عليه    يمكنك ترك هاتفك ومحفظتك على الطاولة.. شقيقة كريستيانو رونالدو تصف مدى الأمن والأمان في السعودية    مخاوف الحوثيين من حرب دولية تدفعهم للقبول باتفاق هدنة مع الحكومة وواشنطن تريد هزيمتهم عسكرياً    الحوثيون يعلنون استعدادهم لدعم إيران في حرب إقليمية: تصعيد التوتر في المنطقة بعد هجمات على السفن    مبلغ مالي كبير وحجة إلى بيت الله الحرام وسلاح شخصي.. ثاني تكريم للشاب البطل الذي أذهل الجميع باستقبال الرئيس العليمي في مارب    غارسيا يتحدث عن مستقبله    مكتب التربية بالمهرة يعلن تعليق الدراسة غدا الخميس بسبب الحالة الجوية    انتقالي لحج يستعيد مقر اتحاد أدباء وكتاب الجنوب بعد إن كان مقتحما منذ حرب 2015    مياه الصرف الصحي تغرق شوارع مدينة القاعدة وتحذيرات من كارثة صحية    إبن وزير العدل سارق المنح الدراسية يعين في منصب رفيع بتليمن (وثائق)    صحة غزة: ارتفاع حصيلة الشهداء إلى 34 ألفا و568 منذ 7 أكتوبر    كيف تسبب الحوثي بتحويل عمال اليمن إلى فقراء؟    هربت من اليمن وفحصت في فرنسا.. بيع قطعة أثرية يمنية نادرة في الخارج وسط تجاهل حكومي    المخا ستفوج لاول مرة بينما صنعاء تعتبر الثالثة لمطاري جدة والمدينة المنورة    هذا ما يحدث بصنعاء وتتكتم جماعة الحوثي الكشف عنه !    النخب اليمنية و"أشرف"... (قصة حقيقية)    اعتراف رسمي وتعويضات قد تصل للملايين.. وفيات و اصابة بالجلطات و أمراض خطيرة بعد لقاح كورونا !    وزارة الأوقاف بالعاصمة عدن تُحذر من تفويج حجاج بدون تأشيرة رسمية وتُؤكّد على أهمية التصاريح(وثيقة)    عودة تفشي وباء الكوليرا في إب    القرءان املاء رباني لا عثماني... الفرق بين امرأة وامرأت    - نورا الفرح مذيعة قناة اليمن اليوم بصنعاء التي ابكت ضيوفها    من كتب يلُبج.. قاعدة تعامل حكام صنعاء مع قادة الفكر الجنوبي ومثقفيه    الشاعر باحارثة يشارك في مهرجان الوطن العربي للإبداع الثقافي الدولي بسلطنة عمان    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



(الوحدة.. وسحق الانفصال) ملف توثيقي خاص عن السابع من يوليو
نشر في نبأ نيوز يوم 07 - 07 - 2006


ظروف الوحدة
لعب الإرث التاريخي الوحدوي دوراً كبيراً في تثبيت المرجعية الوحدوية اليمنية وترسيخها في خيال اليمنيين كخيار الضرورات الحتمية التي كانت تعود إلى طاولته كل القيادات اليمنية كلما تعرضت لأزمات سياسية. وفي الثمانينات أخذت المبادرات التوحيدية والظروف السياسية تتجمع وتتراكم في اتجاه مسار الوحدة.
ففي الشطر الشمالي شهدت الساحة في عقد الثمانينات تطورات كبيرة آلت إلى تحقيق قدر كبير من الاستقرار، وإعادة ترتيب البيت الداخلي، وإبعاد مراكز النفوذ الخارجية عن التحكم بسياسة البلاد، وانتهاج سياسة خارجية دفاعية.. كذلك سمحت الظروف بتوفير مصادر دخل مهمة لليمن عبر السياسة الحكومية الداعية إلى ترشيد الاعتماد على الاستيراد وتنمية موارد اقتصادية داخلية بديلة، إضافة إلى الاكتشافات النفطية المحدودة ومردودات العمالة اليمنية في الخارج، الأمر الذي ساعد على اكتساب السلطة الفاعلية الإقليمية المنشودة، التي أتاحت للرئيس علي عبد الله صالح هامشاً كبيراً للمناورة، ووفرت للوحدة مظلتها الداخلية والخارجية.
أما الشطر الجنوبي، فإنه عاش خلال النصف الثاني من الثمانينيات انهيارات كبيرة متتالية قصمت ظهر النظام، واضطرته إلى الإذعان لنداءات الوحدة، وتقديم المزيد من التنازلات الداخلية والخارجية. فعلى الصعيد الداخلي كان نظام علي سالم البيض يعاني من انهيار سياسي بعد أحداث 13يناير 1986م التي أودت بمعظم رموزه الاشتراكية البارزة، وتسببت أيضاً بانهيار اقتصادي شديد إثر الخراب والدمار الذي أطاح بالمؤسسات المدنية والعسكرية على حد سواء.
وتظافرت الظروف الداخلية مع تطورات خارجية أخرى ضاعفت البلاء، فقد خرجت عدن من الحضانة السوفيتية مبكراً بعد الحرب الأهلية الدامية، حيث أن موسكو لم تعد مستعدة لتغطية أي عبث سياسي لنظام عدن، وإن المعسكر الاشتراكي في طوره للانهيار، وعلى حد تأكيد الزعيم السوفيتي (غور باتشوف) لنضيره الألماني الشرقي "إريك هونيكر": (لقد انتهى عصر حضانة الأطفال، وكل نظام اشتراكي يتوجب عليه أن يدير شئونه بنفسه)( ).
ومن جهة أخرى فإن نظام (البيض) أصبح مطوقاً بمجلس التعاون العربي على حدوده الشمالية مع صنعاء، وبمجلس التعاون الخليجي على حدوده مع السعودية وسلطنة عمان. إضافة إلى أن نظام الشطر الجنوبي كان مصنفاً ضمن الدول الإرهابية في قياسات الولايات المتحدة الأمريكية.
وكانت علاقات البلدين مقطوعة. ولعل انهيار جدار برلين في (9 نوفمبر 1989م) بمثابة القشة التي قصمت ظهر البعير وقطعت كل رجاء الاشتراكيين اليمنيين في احتمالية تجاوز الأزمات الخانقة.. الأمر الذي يعني أن لا مناص أمام نظام عدن إلا بالقبول بيد الرئيس علي عبد الله صالح التي امتدت إليه تدعوه للوحدة الاندماجية بين الشطرين.
ومع كل هذا وذاك، لم يكن تحقيق الوحدة اليمنية أمراً سهلاً أو "صدفة تاريخية" كما فسرها الانفصاليون لاحقاً، بل جاءت على مسار طويل جداً من التهيئة والإنماء- سبق الحديث عن ذلك- وجاءت أيضاً وليدة مهارة سياسية فائقة من الرئيس علي عبد الله صالح الذي استعد لها تماماً، وصنع ظروفها الإقليمية والدولية التي كان لابد من تحضيرها قبل الإقدام على هذه الخطوة الكبيرة.
فإحساس صنعاء باشتداد المخاطر من جارتها المملكة العربية السعودية ومحاولاتها المستميتة للحيلولة دون قيام الوحدة، ومحاولاتها المتكررة لإغراء قادة الحزب الاشتراكي بالعدول عن مشروع الوحدة، دفع بالرئيس علي عبد الله صالح للتحرك بصورة ديناميكية فاعلة على المستويين الإقليمي والدولي لتهيئة مظلة الوحدة والحيلولة دون نجاح السعودية في إعاقتها.
فقد استفاد الرئيس صالح من واقع التنافس الإقليمي الكبير بين السعودية والعراق ومن واقع انضواء اليمن مع العراق والأردن ومصر في مجلس التعاون العربي ليجعل من العراق أهم نصير له في توفير الضمانات لعدم نجاح المسعى السعودي المضاد لمشروع الوحدة. وبالفعل كانت بغداد واحدة من أهم دعائم الوحدة في هذه الفترة.
وعمل الرئيس صالح في الوقت ذاته على زيارة السعودية وطمأنة الملك فهد بن عبد العزيز حول إيجابية الوحدة ، وأكد له بأنها ستكون مصدر أمن واستقرار للمنطقة كاملة، وقوة مضافة لدول الجزيرة العربية.
كما زار الولايات المتحدة الأمريكية والتقى بالرئيس جورج بوش، ونجح في إقناع إدارة البيت الأبيض بالأهمية الاستراتيجية للوحدة اليمنية، وأنها تمثل المحطة الختامية للوجود الماركسي في جنوب شبة الجزيرة العربية، وأداة اقتلاع الإرهاب من المنطقة، وبذل جهدا متميزا في الوصول إلى شطب اسم جنوب اليمن من قائمة الإرهاب الدولي وقد أتت هذه الزيارة في شهر يناير 1990م أي قبل إعلان الوحدة بثلاثة أشهر فقط- وهو ما يمكن اعتباره بان القيادة اليمنية هيأت الضمانة الأكثر أمنا للوحدة اليمنية.
وفي الحقيقة إن المملكة العربية السعودية لم تكن الطرف الوحيد غير الراغب بالوحدة، فهي إن كانت تتطلع إلى حالة تشطيرية تحافظ على حالة التوتر والصراع التي تضمن لها هيمنة إقليمية قديمة العهد، فإن هناك أطراف يمنية أيضا لم تكن راغبة بالوحدة، وعارضت المشروع بحدة فالتيار الإسلامي الذي كان قد لمع نجمة أوائل الثمانينيات كان يعارض الوحدة من منطلقين الأول عقائدي يصل مستوى" تكفير" الاشتراكيين ويصفهم ب " الملحدين" وهو ما نسميه ب"الخلاف الأيديولوجي" .
أما المنطلق الثاني فيبنيه على أساس اعتراضه على دستور دولة الوحدة، واعتباره دستورا "علمانيا" لانه لا يصرح بعبارة " الشريعة الإسلامية المصدر الوحيد للقوانين" وأنما يجعلها "مصدرا للقوانين" فقط دون ذكر كلمة "وحيد" ، وكذلك يطالب هذا التيار بأسلمة بعض النصوص ولهذا السبب فإن ممثلي الحركة الإسلامية في مجلس الشورى أعلنوا انسحابهم من اجتماع يوم 21 مايو 1990م في صنعاء ولم يرافقوا الرئيس صالح إلى عدن في اليوم التالي يوم إعلان الوحدة.
ومن جهة أخرى، فإن التيار القبلي والطبقة البرجوازية كانوا أيضا من معارضي مشروع الوحدة انطلاقاً من حسابات نفعية مصلحية ضيقة، إذ أنهم كانوا يخشون أن تقوض الوحدة نفوذهم ويخسروا الدعومات الخارجية التي كانت تردهم من حين لآخر بقصد القيام بدور ما يقلق السلطة أو يبعثر أوراقها السياسية – لاسيما منهم مشائخ القبائل.
أما البرجوازية فكانت تخاف على مواردها من التأميم أو أي سياسة مماثلة قد يدفع بها الاشتراكيون إلى الساحة ( الشمالية) .
إذن بات جليا للعيان حجم الدور الذي لعبة الرئيس صالح في الحفاظ على توازن ساحة الوحدة مع كل تلك الرؤى السابقة التي اضطرته إلى استهلاك وقتا طويلا في الالتقاء مع رموز القوى الداخلية ( التيار الإسلامي، التيار القبلي، البرجوازيون) وطمأنتهم على كل ما كان يدور في خلدهم، واقناعهم بمقدار المصالح والفرص التي ستهيئها دولة الوحدة لكل فئة منهم، وتهدئة روع الإسلاميين واقناعهم بأهمية القبول بما هو حاصل من أجل الوحدة، وأن الوقت كفيل بتعديل وتقويم كل ما لم يكن سويا أو صائبا تماما.
وهكذا نجد الرئيس قد ناور بكل الأوراق السياسية التي كانت في جعبته في سبيل ضمان المشروع الوحدوي، فقد استعان بخزين التجارب الشخصية الهائلة، في تعيين أسلوب الحوار والإقناع للقوى الوطنية الداخلية للحيلولة دون اقترافها ما يعكر صفوف المسار الوحدوي ،ثم استفاد من قراءاته السابقة لواقع الساحة الإقليمية فكفل من خلالها دعم وإسناد وحماية القطب الأقوى المتمثل بالعراق- الذي كان يتطلع لقيادة أدوار قومية كبيرة، وهو في أوج قوته، فاتاح له الرئيس صالح تبني مسألة الوحدة اليمنية.
وإلى جانب كل ذلك، انطلق إلى الساحة الدولية الأكبر ليتعامل مع الحدث من واقع الاستراتيجيات الدولية الكبرى، وما كان يدور في رؤوس اللاعبين الأقوياء، فارتقي بمهاراته العالية إلى ميادين اللعبة السياسية الذكية الخاصة بالمحترفين ليقنع الولايات المتحدة الأمريكية بأهمية إسنادها ومباركتها لوحدة اليمن، لافتا أنظار البيت الأبيض إلى طبيعة المكانة الاستراتيجية لليمن، ومدى تأثير كينونتها الموحدة في بناء الأمن والاستقرار الإقليمي والدولي، وما قد يترتب عن ذلك من أهمية تنعكس على مصالح الولايات المتحدة الكبيرة في المنطقة.
إجمالاً يمكن القول – أن الرئيس علي عبد الله صالح كان المهندس الحقيقي للوحدة اليمنية، وعقلها المخطط والمدبر، وأداة بنائها، والمحرك الديناميكي لمسيرتها عبر جميع المرحل التاريخية اليمنية ، ولتلك الأسباب تم انتخابه رئيسا لدولة الوحدة- الجمهورية اليمنية.

صيغ الحكم ورهان الاشتراكي
فرضت دولة الوحدة واقعاً سياسياً جديداً انتظمت تحت سقفه رؤى متباينة للصيغ السلطوية التي أطرت النموذج السياسي للحكم، فالرئيس علي عبد الله صالح الذي انشغل لفترة غير قصيرة في ترتيب حلقات الوحدة وتهيئة ظروفها، كان يدرك جيداً أن مشروعه محاط بالكثير من المحاذير والتحديات والمجازفة التي تتربص به الدوائر، وتقتنص الثغرات، وتباينات وجهات النظر لتعمل على توسيع هوتها والانقضاض على مشروع دولة الوحدة.
فقد عمل سحب البساط من تحت أرجل القوى المتربصة من خلال حوار النفس الطويل، والنزول عند قدرية بعض الخيارات السياسية التي وافق على القبول بها.. ولكن على مضض.
كان الرئيس صالح يحمل في رأسه تصوراً لوحدة فيدرالية تتوزع فيها مرافق السلطة على أساس يأخذ في الاعتبار الخارطة السكانية لشطري الوطن بما يحقق توازناً طردياً في معطيات التمثيل الجماهيري في مؤسسة الحكم. وكان ينطلق من نظرة براغماتية في بلورة تصوراته للعمل السياسي، إذ كان يحبذ صيغة الحزب الجبهوي الذي يضم مختلف التيارات السياسية داخل إطار تنظيمي واحد- على غرار تجربة المؤتمر الشعبي العام.
لكن الحزب الاشتراكي اليمني رجح أسلوب التقاسم الكامل لجميع مرافق السلطة من خلال وحدة اندماجية كاملة، ومحددة بأسلوب التعددية الحزبية والسياسية، وينظر إلى ذلك على كونه يوفر ضمانات أمنية لمستقبل الحزب، خصوصاً مع ظروف المعارضة القوية التي أبداها الإسلاميون ضد الوحدة ودستورها.
وكاد هذا الخلاف أن يفض المشروع الوحدوي – خصوصاً مع وجود من يغذيه- وتشعبت المفاوضات، وتقدم الشطر الشمالي باقتراح حل وسط بأن تكون وحدة فيدرالية لمدة خمس سنوات ، وفي الوقت نفسه تكون اندماجية في أربع وزارات فقط إحداها وزارة التربية والتعليم.
لكن (البيض) أصر على رأيه وتعنت بشكل كما لو أنه يبحث عن ذريعة يتخلص بها من (مأزق) الوحدة.. ثم بلغت الأمور في شهر أبريل 1990م إلى طريق مسدود.. إلاّ أن الرئيس العراقي صدام حسين تدخل بين الطرفين والتقى بالأمين العام للحزب الاشتراكي علي سالم البيض في بغداد، وتجاذب معه أطراف الحوار ثم اتصل الرئيس صدام حسين بالرئيس علي عبد الله صالح واجتهد في إقناعه في القبول بمبدأ "التقاسم" فعاد البيض من بغداد إلى صنعاء في الوقت الذي وصل فيه قادة الحزب الاشتراكي اليمني إلى صنعاء، وبدأت المفاوضات بين الطرفين والتي انتهت بالتوقيع على اتفاقية الوحدة ، التي نصت على قيام الدولة الجديدة خلال أقل من شهر ونظمت الفترة الانتقالية بمدة عامين ونصف بدلاً مما هو منصوص عليه في مشروع الدستور بستة أشهر- وكذلك تضمنت اتفاقاً غير معلن حول التقاسم لدوائر الحكم.
وعلى هذا الأساس تشكلت صيغة الائتلاف السياسي للحكم من مجلس رئاسي وتم انتخاب الرئيس علي عبد الله صالح رئيساً للدولة الجديدة، وعلي سالم البيض نائباً، وضم المجلس إلى جانبها القاضي عبد الكريم العرشي وعبد العزيز عبد الغني (عن المؤتمر الشعبي العام)، وسالم صالح محمد (عن الحزب الاشتراكي)، وتم تعيين حيدر أبو بكر العطاس (اشتراكي) رئيساً للوزراء، والدكتور ياسين سعيد نعمان (اشتراكي) رئيساً لمجلس النواب، وكذلك جرى تقاسم الوزارات مناصفة، على اساس إذا ما كان الوزير مؤتمرياً يكون نائبه اشتراكياً، والعكس.
وفيما كانت الآمال معقودة على دولة الوحدة، بدت الصيغ السياسية المؤطرة لنظام الحكم شبه عاجزة عن بلورة رؤية استراتيجية لبناء دولة مؤسسات حقيقية تستقيم بها العملية الديمقراطية، فقد ظل هاجس الخوف ملتصقاً بمفردات العمل السياسي للحزب الاشتراكي من قبل الوحدة وحتى فتنة الانفصال وصاحب قيادات الاشتراكي في جميع خياراتهم لصيغ الحكم، فجعلوا رهانهم بالتعددية الحزبية على أساس من خوفهم من الذوبان في إطار التنظيم الموحد الذي كان يحبذه الرئيس علي عبد الله صالح ؛ خاصة مع تداعي الأنظمة الاشتراكية العالمية وانهيارها.
ونظر الاشتراكيون للأمر على كونه النموذج الأمثل الذي يستطيع احتواء الساحة الشمالية وابتلاع تنظيم المؤتمر الشعبي العام الذي لا يستند إلى قاعدة حزبية وتنظيمية مرصوصة الصفوف أو أيديولوجية عصرية، وكوادر مدربة- على غرار ما لديهم.
وينقل الباحث ما يكل س. هدسون على لسان حيدر أبو بكر العطاس تأكيداً لذلك الرأي: (هناك مشكلات كبيرة تواجهنا: التخلف ، والطائفية ، والاختلافات الاجتماعية والاقتصادية ، والتطرف الديني.. وأن معالجة هذه المشكلات تتم بامتداد نظام الجنوب إلى فوضى الشمال).
ويستنتج هدسون من قراءاته للساحة اليمنية بأن: "الحزب الاشتراكي والزعماء الجنوبيين أقبلوا على الوحدة بتردد، فقد كانوا يطمحون إلى قيادة اليمن كله في النهاية، وربما فكروا أنهم في أسوء الأحوال يستطيعون أن يتخلصوا من تجربة الوحدة ويسيطروا مجدداً على يمن جنوبي مستقل).
ويبدو واضحا أن الرئيس صالح أدرك تلك الحقيقة من قبل إعلان الوحدة اليمنية، ووضع في حسبانه العمل وفقا لضوابط اتفاقيات الوحدة ومحاولة ضبط الاشتراكيين على أساسها، والتصدي بقوة لأي فعل قد يتخطى الحدود المرسومة للعبة السياسية. وكان واثقا بأنه قادر على الحفاظ على خيوط اللعبة بيديه والمناورة على هامش أكبر بكثير مما بحوزة الاشتراكي، وفي مقدمة ذلك معادلة الأكثرية والأقلية ، وتعدد روابطه مع الجنوبيين، وخبرته السياسية الأطول.
وهكذا أفرزت الحالة الوحدوية إمكانية فشل خيار الاندماجية الفورية على قواعد نظرية العمل الثوري في الأيديولوجية الاشتراكية، والتي لا تعطي أي خصوصية للواقع اليمني وظرفه الاستثنائي وضرورات التدرج المرحلي والتحول عبر تراكمات الإصلاحات القاعدية، وهي الطريقة التي تأكدت نجاحاتها طوال الفترة السابقة للوحدة من عهد الرئيس صالح.
أضف إلى ذلك، إن مبدأ "تقاسم السلطات" كان ذو شقين سلبيين، فهو من جهة لا يحقق العدالة الديمقراطية بتجاوزه لاعتبارات التوزيع الجغرافي للقوى البشرية، ومن جهة أخرى فإنه سبباً أساسياً في تعدد أوجه القرار السياسي، وتشتيت المسئوليات الوطنية وتداخل اختصاصاتها بالقدر الذي لا يمكن فرز أية حقائق واضحة على ضوئه.

المرحلة الانتقالية.. انفصام الشريك:
لم تدم فرصة الرئيس علي عبد الله صالح طويلاً بمنجزه الوطني الكبير، فبعد سبعين يوماً بالضبط من إعلان إعادة تحقيق الوحدة اليمنية حدث الاجتياح العراقي للكويت ليقلب موازين المنطقة كاملة، ويبعثر حسابات دولة الوحدة من غير سابق إنذار.
اليمن الذي حظي بتغطية عراقية واسعة للوحدة، سيجد نفسه في مأزق تاريخي بعد الغزو العراقي للكويت في 2 أغسطس 1990، سيكون مضطراً فيه لدفع ثمن – ليست تلك العلاقة الحميمة بل ومواقفه القومية الثابتة أيضاً.. فبتصويت مندوب الأمن في مجلس الأمن (عبد الله الأشطل) ضد بعض القرارات الدولية المطبوخة في البيت الأمريكي، فتح جبهة الخصومة مع اليمن، واتخذ تفسيرات شتى قادت آخر الأمر إلى محاصرة دولة الوحدة الحديثة العهد بعزلة دولية قاهرة، وحجب المساعدات الدولية عنها، وتهجير ما يقارب المليون وربع المليون يمني ممن كانوا يعملون في دول الخليج العربي ويشكلون مصدراً للعملة الصعبة.
إن تلك التطورات دفعت بالبلاد إلى أتوان أزمة سياسية واقتصادية حادة جداً بدلت الكثير للغاية، وبالرغم من نجاح الشريكين في إدارة الموقف من أزمة الخليج الثانية في حلقاتها الأولى، إلاّ أن الإجراءات العقابية الخليجية ما لبثت أن تحولت إلى رهانات استراتيجية للتآمر على الحكم اليمني، واستطاعت أن تجد في ساحة الحزب الاشتراكي من يصغي إليها بقوة، ويحاول تأجيجها أيضاً ، من خلال تشكيل صور وهمية عن نوايا مبيتة للرئيس صالح تجعله شريكاً في مؤامرة عراقية على السعودية ودول الخليج العربي.
فالانحطاط الاقتصادي والسياسي الذي عصف بدولة الوحدة عقب اجتياح الكويت عكس آثاره سلباً على الأقطاب السياسية للحكم. إذ وجد الحزب الاشتراكي نفسه أمام فرصة تاريخية سانحة للتنصل من التزاماته ومواثيقه التي أبرمها مع المؤتمر الشعبي العام، وربما قلب المعادلة معه تماماً لو أحسن استثمار ظروف الساحة الدولية المرافقة لحرب الخليج الثانية، ليظهر من خلالها بثوب الطهر والإخلاص والنوايا الصادقة (بعكس شريكه)، وهو أمر يأمل منه كسب تعاطف وثقة دول الجوار أولاً والمجتمع الدولي ثانياً، بما يتيح لحزبه مساحة عريضة للمناوبة وتضييق الخناق على الرئيس صالح.
ومع منتصف العام 1991م، أخذت المماحكات تطفو إلى السطح ولكن في حدود ضيقة نوعاً ما، مرة بسبب العلاقة المتوترة بين الحزب الاشتراكي وحزب الإصلاح الذي أعلن عن نفسه في 13سبتمبر 1990م، وتارة أخرى من جراء الأزمة الاقتصادية الحادة، إذ دأب البيض على إلقاء مسئوليتها على الرئيس صالح، وتحميله تبعات كل المشاكل الداخلية.. علاوة على ظهور اتهامات متبادلة بين الطرفين في محاولة استقطاب كل طرف لرموز الطرف الآخر .
ومن جهة أخرى، أخذ الرئيس علي عبد الله صالح يضيق ذرعاً من سلوكيات نائبه علي سالم البيض. حيث واصل الثاني التصرف كما لو أنه كان هو رئيس الجمهورية، فصار يصرح بمواقف الدولة، ويتخذ القرارات دون العودة أو التشاور بشأنها مع الرئيس- خصوصاً في العام 1992م، وكان أيضاً يصر على أمور شكلية مثل حرس الشرف حينما يسافر كأنه رئيس دولة، كذلك الخروج بموكب كبير يضم عشرات السيارات الرئاسية في الوقت الذي لا تتجاوز فيه عدد السيارات المرافقة للرئيس عشر… وبالطبع كان ذلك يسبب إحراجاً للرئيس صالح الذي لا يعطي مثل تلك المظاهر أي أهمية تذكر.
وقد انفجرت الخلافات علناً، وللمرة الأولى، في النصف الثاني من العام 1992م، حيث نقل الحزب الاشتراكي الخلاف السياسي الداخلي إلى الشارع اليمني في محاولة للضغط على الرئيس علي عبد الله صالح لتعديل شروط اشتراك الحزب في الحكم والتعويض عن الضعف الذي طرأ عليه بعد الإعلان عن قيام حزب التجمع اليمني للإصلاح.
فقد نظم الاشتراكي مؤتمراً شعبياً في مدينة تعز، ودعا لحضوره بعض الهيئات الدبلوماسية الأجنبية وتمت فيه مهاجمة الرئيس وحزبه وتحميله مسئولية الأوضاع الاقتصادية في البلاد، إضافة إلى أن الحزب الاشتراكي تحرك باتجاه القبائل بهدف استقطاب بعض مشائخها والضغط على الحكم الذي هو شريك فيه من خلال محور نزعة قبلية مشحونة بالكراهية على الحكم، وبذل لها الأموال، وتبنى تمويل مؤتمرات قبلية كان من أبرزها مؤتمر " سبأ" في شهر ديسمبر 1992م، والذي رُددت فيه (زواملاً) شعرية معارضة تتعرض إلى شخص الرئيس صالح نفسه.
وفي السياق نفسه، اتبع الحزب الاشتراكي في تلك الفترة أسلوباً غوغائياً في تأليب الأوضاع الداخلية ضد سياسة الرئيس صالح، بأن عمل على تحشيد قواعده الحزبية في حملة دعائية سافرة انتهت أخيراً بتنظيم مظاهرات عارمة تتخللها أعمال نهب واعتداء على الممتلكات العامة والخاصة في يومي 9-10 ديسمبر 1992م رفعت شعارات ضد الدولة والمؤتمر الشعبي العام وتسببت بإحراجات كبيرة للرئيس صالح، خصوصاً وأنها وقعت في المحافظات الشمالية فقط، بما فيها العاصمة صنعاء.. وقد تبين للأجهزة الأمنية للرئيس صالح في اليوم الثاني من المظاهرات أن الاشتراكي كان يقف ورائها ويراهن عليها في إزاحة الرئيس من الحكم.
ولم يتوقف الأمر عند هذه الحدود، بل تعداها الاشتراكي إلى أسلوب العمل الإرهابي الاحترافي، حيث استغل تواجد الأمريكيين في عدن الذين قدموا أثناء المشكلة الصومالية لمحاولة حلها، فدبر في يوم 29 ديسمبر 1992م سلسلة تفجيرات شملت مطار عدن، وفندق (جولدمور)، وفندق (عدن موفبيك)، وجميعها استهدفت في يوم واحد بقصد زج العلاقات اليمنية- الأمريكية في مأزق جديد قد يلفت انتباههم إلى (البيض) كبديل حازم وقادر على تأمين مصالح الولايات المتحدة بالمنطقة.
وعلى هذا المنوال برزت الأزمة الأولى في علاقات الشريكين، وقاد الأمر إلى التفكير بمشروع إنهاء الثنائية في السلطة، وتوحيد الحزب الاشتراكي والمؤتمر الشعبي العام، كصيغة رأى فيها الرئيس علي عبد الله صالح مخرجاً مناسباً يضع حداً للخلافات المتصاعدة ويرسي قواعداً جديدة للعمل السياسي بما يمكن أن يتحول إلى ضمانة أكيدة لتدعيم الوحدة واستمرارها إلا أن هذا المشروع لم ير النور بسبب معارضة عدة أطراف له، في مقدمتها (الاصلاح)، خشية أن يتحول إلى كبش فداء ذلك التوحيد، وعارضه أيضاً التيار الشمالي في الحزب الاشتراكي وبعض رموز المكتب السياسي للحزب الاشتراكي.
وبشكل عام، تلخص دور الاشتراكي خلال النصف الثاني من العام 1992م في المناورة بمهارة كبيرة لإحراج موقف المؤتمر الشعبي العام وجني مكاسب سلطوية تخدم غايات التخلص من الشريك الأصلي والانفراد بالحكم أو العودة إلى الوضع الانفصالي السابق على أقل تقدير. واتخذت تلك المناورات صيغاً متعددة انطلقت من عدة اعتبارات يرى الاشتراكيون من خلالها أنفسهم الأقرب إلى كسب الرهان السياسي، ويمكن تحديدها بالآتي:
أولاً: القدرات التنظيمية للحزب، وطول باع أعضائه في العمل السياسي الحركي المبرمج.
ثانياً: لم يعد في ذمة الحزب أي أعباء مالية قد تثقل كاهله، فديونه البالغة (5500) مليون دولار قد انتقلت إلى ذمة دولة الوحدة منذ الثاني والعشرين من مايو 1990م.
ثالثاً: أصبح الاشتراكي نجماً لامعاً في الخليج وبعض الخارج عقب حرب الخليج الثانية بفضل سياسة اللعب بوجهين.
رابعاً: أصبح الموقف المالي له أفضل من أي مرحلة سابقة من خلال دعم الخليج ودول الجزيرة لنظامه بسخاء.
خامساً: عمل الاشتراكي على محاولة زعزعة الحكم وتقويضه من خلال مجموعة من البدائل المؤثرة، مثل:
أ- الاعتماد على عدم تطبيق الدستور وعرقلة الدمج الحقيقي لمؤسسات الشطرين مما يعني شل ديناميكية الوحدة.
ب- تحميل الرئيس صالح وقيادة المؤتمر الشعبي العام مسئولية تردي الأوضاع في الوطن، وتعبئة الجماهير إعلامياً بذلك.
ج- إثارة الفتن والنعرات القبلية والطائفية وتمويل المؤتمرات والنشاط السياسي المعادي للحكم.
د- تنظيم وقيادة المظاهرات وأعمال النهب والتخريب والإرهاب.
ه- نشاط الدبلوماسيين الاشتراكيين في الخارج لتشويه صورة الرئيس صالح وحزبه وتلفيق الاتهامات الجزافية بحقه، بما من شأنه إدامة القطيعة والعزلة على صنعاء.
و- الاعتكاف وآثاره الأزمات السياسية من حين لآخر، بقصد إرباك الساحة الداخلية وإحكام الضغط على الرئيس صالح، وبالتالي الفوز بتنازلات أو امتيازات جديدة، وترقب ردود فعل غير دقيقة من الرئيس وحزبه قد تصلح ذريعة لتأجيج الوضع بين الشريكين والعودة إلى الحالة التشطيرية السابقة.
وهو الأمر الذي يفسر اعتكاف البيض الأول بعد بضعة أشهر على انتهاء حرب الخليج، ثم اعتكافه الثاني في الفترة أغسطس نوفمبر 1992م، والثالث في صيف عام 1993م.
ومما يمكن ملاحظته على الساحة اليمنية آنذاك إن البلاد كلما اقتربت من الموعد المتفق عليه لإجراء الانتخابات البرلمانية، كلما ازداد التوتر بين شريكي المرحلة الانتقالية، واحتدت الخلافات، وتعددت الرهانات السياسية.
وهو الأمر الذي يدفعنا للاعتقاد بأن الحزب الاشتراكي اليمني كان يعاني في تلك السنوات من حالة اغتراب حقيقية تعزز الإحساس عند القيادات الاشتراكية بأن وجودها أصبح قلوياً إلى حد كبير في الواقع السياسي الوطني والدولي على حد سواء في ظل انهيار الإيديولوجيات الاشتراكية في العالم أولاً والاصطدام بحقيقة الانطباعات الشعبية التي تولدت عقب الوحدة. وكان من الطبيعي أن يعيش الاشتراكيون مخاوفهم من الانقراض، فحرصوا على التعايش مع اللا إستقرار كطقس مثالي للبقاء طويلاً.

الرئيس وإدارة الأزمة
في سياق كل تلك التفاعلات المتسارعة، وقف الرئيس علي عبد الله صالح على الطرف الآخر من مربع السلطة الأول، ممسكاً بعصا التوازن السياسي من الوسط للحفاظ على قدر معقول من السلام الذي يمنحه حرية التحرك والمناورة على آفاق أوسع من ميدان تجربة العمل السياسي.. حيث أثر الدخول في حوار طويل- وممل أحياناً- مع شريكه العنيد، أملاً في رسم محددات صياغات توافقية مرنة يرجى لها نزع فتيل الأزمة السياسية، وتأكيد استقرار وديمومة المنجز الوحدوي.
لكن على الرغم مما عرف عن الرئيس صالح من احتراف منطق الحوار في إدارة الأزمات، فإنه في ظل المتغيرات الإقليمية والدولية المستجدة بعد أحداث الثاني من أغسطس 1990م كان محاصراً بخيارات سياسية محدودة تضطره مراراً للنزول عند قدرية بعض التطورات، وتقديم تنازلات نوعية، يرمي من ورائها إسقاط الذرائع، وبلوغ شيء من التضحية يتناسب وعظمة المنجز الوحدوي التاريخي الجدير بالاستحقاقات الوطنية المقدمة لأجله.
إن إدراك الرئيس صالح لحقيقة اللعبة السياسية التي كان الاشتراكي يسعى بها إلى جر أقدام المؤتمر الشعبي العام إلى أنفاقها الخانقة، دفعه إلى الرهان على حماية الوحدة من خلال القاعدة الشعبية التي يستحيل إقناعها بأية تسوية أو مقايضة مقابل الوحدة.. ومثلت هذه الرؤية إحدى أدوات المناورة وأهم خطوطها التي ستطيح بالمؤامرة الانفصالية لاحقاً.
ومن جهة أخرى، فإن بإمكاننا وضع أيدينا على جملة من الخروقات السياسية التي عمد إليها الحزب الاشتراكي بغية استفزاز الرئيس والمؤتمر الشعبي العام، في مقدمتها التحريض والإعداد للمظاهرات والمؤتمرات المناهضة للحكم في الوقت الذي يمثل فيه النصف الآخر من نظام الحكم .. لكن الرئيس تعامل مع كل ذلك بشفافية، وروح التسامح المعهودة، وغض الطرف، وبناء المواقف من واقع نواياً حسنة ومخلصة للمواثيق السياسية والأخلاقية..
وحتى لعبة الاعتكافات المفضوحة، والتي لم يغفل الرئيس عن مقاصدها المبيتة- كان يتناولها بمآخذ الجد، وغالباً ما يجد نفسه مضطراً لإرضاء شريكه ضمن الحدود المتاحة لئلا تتطور صيغة الاعتكاف إلى عودة انفصالية جديدة في ظرف تهيئ طقوسه حالة الإخفاق في دمج مؤسسات الشطرين وعلى رأسها القوات المسلحة والأمن.. وليس هناك ما هو أدل على ذلك من الاعتكاف الأخير الذي أعقب الانتخابات البرلمانية 1993م ودفع بالأزمة إلى أضيق زواياها، وعجزت المناشدات والاعتصامات الجماهيرية عن إعادة النائب إلى رشده، وفشلت كذلك مساعي أكبر وساطة مصالحه سياسية بين صنعاء وعدن ضمت المشير عبدالله السلال (أول رؤساء الجمهورية) والقاضي عبد السلام صبرة، والشيخ سنان أبو لحوم، ومحمد باسندوة وغيرهم من أبرز الرموز الثورية والوطنية في اليمن.
وكانت "وثيقة العهد والاتفاق" وحدها قادرة على إنهاء الاعتكاف لأنها تلبي الكثير من مطالب البيض، بل معظمها، واضطر الرئيس قبولها في وقت كان يشخصها بأنها انقلاب كامل عليه وعلى الوحدة الاندماجية وعلى الشرعية الدستورية، وكأننا به على قناعة كاملة بأن البيض قد اتخذ القرار النهائي للانفصال.
وفي الحقيقة، كان الرئيس صالح بتمسكه الشديد بخيارات السلام، وتقديم التنازلات لشريكه في الحكم يعرض نفسه لبعض الانتقادات واللوم من قبل بعض القيادات المؤتمرية التي كانت ترى بأن الاشتراكي قد تمادى كثيراً في مطالبه، وأن سياسة المجاراة قد زادت من أطماعه وغروره.. في حين كان الرئيس يرى ضرورة ملحة في استنفاذ كل الوسائل السلمية المتاحة، وحرق مراكب الانفصال التي لو حاول الاشتراكي إشعال فتنتها لن يكون سهلاً على المؤتمر إطفائها في وقت قصير ومن ناحية أخرى فإن أية عودة للحالة التشطيرية السابقة- حتى لو تمت من غير عنف- سيجد المؤتمر نفسه محملاً مسئوليتها، ومعرضاً لهجوم ومراهنات القوى السياسية الوطنية الأخرى لكونه لم يستطع المحافظة على الوحدة.. إلى جانب ما سيترتب عن ذلك من إحراجات خارجية كبيرة.
لا شك إن المرحلة الانتقالية كانت عصيبة للغاية، وتخللتها تجارب كبيرة صقلت مهارة قيادات المؤتمر الشعبي العام في أسلوب إدارة المعارك السياسية، بحيث إنه حتى أواخر عام 1992م كان الإرباك النسبي هو الصفة الغالبة على ساحته، وبالمقابل كان الحزب الاشتراكي يتحرك داخلياً وخارجياً، ويؤلب الرأي العام، ويستثمر أصغر الأحداث لصالح مخططاته، ويوجه الاتهامات الصريحة والمعلنة لرموز المؤتمر الشعبي العام في الوقت الذي كان المؤتمر يتجاهل كل ذلك الضجيج غير مكترث لدرء الإتهامات الموجهة إليه .. إلا إنه بعد اندلاع المظاهرات العارمة وأعمال الشغب الواسعة في مدينة تعز ثم امتدادها إلى صنعاء، والحديدة، وذمار، ورداع وغيرها، في 9ديسمبر 1992م والأيام التالية له تحت مظلة موجة الغلاء أيقن المؤتمر آنذاك أهمية التحول إلى سياسة دفاعية فاعلة ومؤثرة على نطاق واسع، بجانب إتقان اللعب بالأوراق السياسية والأمنية التي تفرزها متغيرات الساحة الداخلية.
ومن تلك اللحظة بدأت الأمور تعيد انتظامها من جديد في يد الرئيس صالح، واستعاد المؤتمر نفوذه الجماهيري العريض في زمن قياسي، ونجح في ترجيح كفة المعادلة السياسية لصالحه مما حدا بالاشتراكي الانسحاب من تلك المناورة إلى حلبة بديلة عنوانها الرئيسي (الاعتكافات) .
إذن ظل الوضع اليمني في هذه الفترة الانتقالية يتفاقم سوءً في ظل إصرار الاشتراكي على مواصلة التصعيد والإنقلاب على الثوابت الوطنية، لكن الخيارات الحكيمة التي اعتمدها الرئيس علي عبد الله صالح كانت وحدها القادرة على كشف زيف الشعارات، وفضح المخططات التآمرية على الوحدة.
فالرئيس صالح – وإن كان قد وافق على تمديد الفترة الانتقالية لبضعة أشهر ريثما يتم الاتفاق على الصيغة التي سيدخل بها مع شريكه للانتخابات- إلا إنه لم يستجب لمطالبة الاشتراكي بالتنسيق مع المؤتمر والنزول بقائمة واحدة، لأن تقاسم قوائم الترشيح تعني استمرارية تقاسم السلطة بعد الانتخابات .. بينما كان الرئيس يبدو في أوج ثقته بنفسه وبالمؤتمر الشعبي العام، ومؤمناً تماماً بحجم الالتفاف الجماهيري حول قيادته، ومن المؤكد أن تكون الانتخابات محطة الفرز الحقيقية التي ستعطي لكل حزب استحقاقاته وحجمه الطبيعي.
أخيراً توصل الرئيس ونائبه إلى أن ينفرد كل منهما بالدوائر الانتخابية على مستوى المحافظات التي كان يحكمها، مقابل اتفاقهما على الاندماج الفوري عقب الانتخابات بموجب اتفاق يتضمن كذلك إجراء تعديلات دستورية كبيرة تهمبنية وتركيب السلطة.
وجرت الانتخابات في 27 إبريل 1993م، وتصدر المؤتمر الشعبي العام نتائجها (122) مقعداً ويليه حزب التجمع اليمني للإصلاح (63) مقعداً، ثم الحزب الاشتراكي اليمني (56) مقعداً و (48) مقعداً من حصة المستقلين. وتلك النتائج كانت محبطة جداً للاشتراكيين، وفسرت سلوكهم السابق المرتاب من خوض الانتخابات من غير صفقة مربحة مع المؤتمر الشعبي العام.
وبعد أسبوعين من ذلك وقع الرئيس صالح ونائبه البيض على اتفاق الاندماج والتعديلات الدستورية، ولكن الاشتراكيين ربما راجعوا حساباتهم لاحقاً واكتشفوا أن الإندماج هو الصيغة المحببة للرئيس صالح من قبل إعلان الوحدة، وظنوا أن النزول عند خياره قد يكون فخاً لتذويب الحزب الاشتراكي وتحلله داخل الكيان الهلامي الكبير.. وهكذا قاد ذلك التفكير إلى نسف الاتفاق من خلال غياب الأمين العام المساعد سالم صالح محمد وعدد من أعضاء المكتب السياسي عن حفل التوقيع بحجة رفضهم له، مما استدعى عرض الاتفاق على اللجنة المركزية للحزب التي رفضته بالأغلبية.
ورغم ذلك الرفض عاود الحزب الاشتراكي التفاوض مع المؤتمر والإصلاح حول التعديلات الدستورية بينما رافق ذلك الحدث سفر البيض إلى الولايات المتحدة. وفي بداية شهر أغسطس 1993م أقر مجلس النواب مبدأ التعديل الدستوري. وفي 19 أغسطس 1993م عاد البيض من رحلته العلاجية ليعلن رفضه للتعديلات والاستقواء بالأغلبية العددية.
وفي أكتوبر 1993م بدأت أعمال تشكيل مجلس الرئاسة الجديد، وأصر الاشتراكي على أخذ مقعدين في المجلس بدلاً من واحد إسوة بالمؤتمر، فكان له ذلك، وتم انتخاب علي عبد الله صالح وعبد العزيز عبد الغني عن المؤتمر، وعلي سالم البيض وسالم صالح محمد عن الاشتراكي، وعبد المجيد الزنداني عن الإصلاح.
ولقد جسد اختيار الرئيس صالح للشيخ عبد المجيد الزنداني لعضوية مجلس الرئاسة نموذجاً متفوقاً للحنكة السياسية في إدارة الأزمة السياسية، والبراعة في استقراء التطورات اللاحقة التي ستلعب فيها الشخصية الكاريزمية للشيخ الزنداني دوراً مهماً في مواجهة الخصم الانفصالي. فنائب الرئيس رفض العودة إلى صنعاء لأداء اليمين الدستورية، وبدلاً من ذلك توجه إلى السعودية وعمان، فيما توجه سالم صالح محمد إلى الكويت والإمارات.. الأمر الذي أخذ يؤكد الشكوك حول الدور الخليجي الكبير في تشكيل ملامح الأزمة اليمنية في منشأها، ثم في تأجيج سعير الحرب الانفصالية في صيف 1994م.
وقد أتت تلك الزيارات عقب التوقيع على " وثيقة العهد والاتفاق" في 21 يناير 1994م في العاصمة الأردنية عمان، والتي كانت بمثابة صيغة توفيقية بين الطرفين، قبلها الرئيس صالح على مضض بكل بنودها الثماني عشرة التي قدمها البيض واشترط توقيعها في دولة محايدة وبحضور ممثلين عن الدول الدائمة العضوية بمجلس الأمن والجامعة العربية وعدد من الدول المعنية بالأزمة العربية.
وبتلك الزيارة والعودة إلى عدن، وفشل الوساطة العمانية في رأب الصدع بين الرئيس ونائبه في القمة التي جمعت بينهما في مسقط..كلها كانت بمثابة تأكيدات بأن قرار الحرب الانفصالية قد تم البت فيه من قبل، ولا سبيل للتراجع عن قرار عدّه الاشتراكيون مشروعاً استراتيجياً لمواجهة احتضار الشيوعية العالمية والنظريات السياسية والماركسية من خلال تجديد انبعاثها بالقوة وفرضها على الجماهير بالسطوة السلطوية للكوادر الحزبية العقائدية، وفي بلد يبعد عن موطن الأيديولوجيات الاشتراكية عدة آلاف من الأميال.
ورغم أن الأمر بدا للمراقبين معقداً إلى حدٍ ما، إلا أن الترسانة العسكرية الضخمة والحديثة- بقية الإرث السوفيتي- والوعود الخليجية الغليظة وتمويلاتها الطائلة، والجهل بإرادة الطرف الآخر- الرئيس صالح وجماهيره- أغرق القيادات الاشتراكية بعنفوان الغرور وأوهام الهيمنة، ودفعها في شهر فبراير 1994م إلى الشروع بمخطط التصعيد العسكري، وما أن بزغ فجر يوم 4 مايو 1994م حتى استعر أوار الحرب على امتداد كل (الحدود التشطيرية)، ومع إشراقة صباح يوم 21مايو 1994م، أعلن علي سالم البيض قراره السياسي بالانفصال عن الدولة الأم والعودة إلى صيغة (جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية).
وكان ذلك القرار الانفصالي القشة التي قصمت ظهر الحزب الاشتراكي وألبّت عليه الجماهير اليمنية في كل مكان والتي اندفعت لمؤازرة القوات الحكومية الشرعية بالمتطوعين والأموال والأغذية وغيرها في لوحة كرنفالية لم يسبق لها مثيل في تلاحمها واصطفافها خلف قيادة الرئيس علي عبد الله صالح، الذي زف لجماهيره اليمنية والعربية في 7يوليو 1994م بشرى النصر العظيم على الفصائل الانفصالية.

قائد فوق التحديات
في السابع من يوليو 1994م، كان العنوان الوحيد الذي يندرج تحته الرئيس علي عبد الله صالح هو إنه قائد فوق كل التحديات.. ورجل لا تعجزه الخطوب عن العطاء والبناء والتحول.. ومن حقه أن يعد هذا اليوم من أيام الوطن التاريخية، لأنه كان انتصاراً على الداخل والخارج معاً، ويوماً تتعدد فيه ألوان الانتصار.
فالسابع من يوليو كان محطة فرز المواقف، واختبار للذات الوطنية اليمنية، وموسم النقاهة.. ولقد شهد أكبر تتويج تاريخي لزعيم عربي في زمن الانحطاط القومي، وانهيار مؤسسة الدولة في العالم العربي، وشد أنظار المجتمع الدولي إلى هذه الظاهرة الفريدة في أقصى جنوب شبه الجزيرة العربية التي شهدت للتو واحداً من أصخب وأعنف الحروب العالمية في النصف الثاني من القرن العشرين، وفي بلد لا يمتلك من الموارد إلا شحيحها، وما أن استعاد وحدته بعد سعي مضني حتى حكمت عليه الأقدار بعد أقل من ثلاثة أشهر بمواجهة عقوبات وحصار دولي مريرين لذنب لم يقترفه أصلاً.. لكنه كان ضريبة صدق مواقفه، وحسن النية، وسياسة الشجعان.. ورغم كل ذلك حقق نصراً عجزت عنه دول أعظم موارد وأسعد ظروف، وأوفر حظ مع العالم.. إلا أن كل ما كان ينقصها قيادة محنكة كتلك التي أدارت الأزمة اليمنية وكسبت حربها.
إن الرئيس علي عبد الله صالح في تلك الفترة ضرب مثلاً نادراً لنموذج الزعامة السياسية الوطنية الحكيمة. ولعل المتتبع لتفاعلات ت المرحلة الانتقالية ثم الحرب الانفصالية حتى نهايتها، من المؤكد أن يكتشف أن انتصار السابع من يوليو قد تلون بعدة مسميات عنونت تحديات المرحلة، وترجمت محاور الصراع السياسي الذي كان دائراً، ويمكن تلخيصها بالآتي:
أولاً: النصر السياسي الداخلي
وكان سابقاً للمعركة العسكرية، ومؤكداً لمهارة الرئيس صالح في الحكم، وفي المناورة، والموازنة بين محاور العمل السياسي المتعددة، فما استعرضناه من وقائع في هذا المبحث عزز قناعاتنا بأن الرئيس صالح كان متيقناً بأن الحزب الاشتراكي لم يكن جاداً في خيار الوحدة، وقد دخلها مضطراً، هرباً من مشاكل سياسية واقتصادية قاهرة، وأنه لابد أن يسعى لأحد أمرين، إما محاولة احتواء المؤتمر والصعود فوقه من خلال أوهام تقوده للاعتقاد بأنه الأكفأ لحصد الأغلبية البرلمانية بعد انتهاء الفترة الانتقالية ومن خلال ألاعيب سياسية يحسن المناورة بها لتضييق الخناق على المؤتمر الشعبي العام ورئيسه وإما أنه سيعود للانفصال ريثما يحرره (الشمال) من أزماته ويخلصه من مشاكله.
إن قدرة الرئيس صالح على صياغة تلك القراءات السليمة لظروف شراكة الوحدة منذ بدايتها، أحاطت ساحة المؤتمر الشعبي العام بهامش حذر نسبياً، ويقظة عالية يتوخى منها تجنب الانقياد إلى الفخاخ التي قد يجره إليها الحزب الاشتراكي. ومن هنا يمكن وصف النهج السياسي للرئيس صالح طوال عمر الأزمة الداخلية مع شريكه، بأنه كان يتسم بالحكمة والتسامح والشفافية في تلقي الصدمات المقابلة واحتواء استفزازاتها، والتصعيد المستمر للأحداث.
وبدلاً من أن تكون المرونة والتنازلات التي يقدمها الرئيس للاشتراكي مؤشراً لحالة أدنى وواقع أضعف- كما فهمها الاشتراكي- ترجمت أسلوباً سياسياً ذكياً لإسقاط الذرائع والحجج والدفع بالطرف الآخر إلى وضع محرج في الساحة الوطنية كان يضطره دائماً للأقدام على المزيد من الخيارات المتهورة التي تضاعف مأساة الحزب من خلال الانهيارات المتلاحقة في شعبيته الجماهيرية أولاً، وتراجع في مركزه السياسي بين القوى الوطنية الأخرى ثانياً.
تولدت هذه العلاقة العكسية في سياسة الحزب الاشتراكي على ضوء اعتراضها بسياسة الرئيس صالح الأكثر حنكة، والقائمة على المقولة( أقوياء بلا غرور، ومتواضعون من غير ضعف)، وهو الأمر الذي ساعد على فضح المخطط الاشتراكي الارتدادي، وأفرز الصوت النشاز في دائرة الحكم والذي يجب تنحيته.. في حين كان الرئيس صالح يضاعف رصيده الوطني على أكثر من محور، فقد نجح في وضع معادلة متوازنة تستوعب خطوط العلاقة بين الحزب الاشتراكي وحزب التجمع اليمني للإصلاح وتحول دون انفجار الوضع بينهما.ثم عمل على الاستفادة من الثقل السياسي للإصلاح والذي أظهرته نتائج الانتخابات البرلمانية من خلال منحه استحقاقه الديمقراطي في عضوية مجلس الرئاسة، ليكون ذلك عاملاً يخفف الضغط السياسي الذي يشكله التمثيل الاشتراكي في المجلس من جهة، ولمعادلة الآلية الحربية المتفوقة بزخم شعبي له وقعه المؤثر في أي ظرف تعبوي طارئ.
هذه المهارة في تنظيم أوراق الأزمة، ثم في إدارة الحوار السياسي بالنفس الطويل ساعدت على توثيق القاعدة الوطنية للرئيس، وتعميق أواصر تلاحمها مع قيادته. ولعل قبول الرئيس صالح بوثيقة العهد والاتفاق المقدمة من الاشتراكي، والتوقيع عليها في عمان بمباركة الملك الحسين بن طلال مثل الموقف الأكثر جرأة وشجاعة فيما نسجله للرئيس ضمن رهانات الوحدة اليمنية، ولا شك أن إنتهاء الوثيقة لما آلت إليه برهنت حدة ذكاء علي عبد الله صالح الذي جازف بالقبول بوثيقة وصفت بأنها انقلاب كامل عليه وعلى الوحدة الاندماجية والشرعية الدستورية. ليحرق بذلك آخر الأوراق السياسية التي كان يلعب بها الاشتراكي، ويحرز أكبر الانتصارات السياسية الحاسمة للأزمة.
ومن الغريب حقاً أن الاشتراكي الذي أملى نقاط الوثيقة الثمانية عشرة بكل تفاصيلها، عاد ليتنصل منها بعد ساعات قليلة فقط من مراسيم التوقيع. مع إنه اشترط حضور ممثلين من مجلس الأمن والجامعة العربية ليشهدوا على الاتفاق، وبهذا الإحكام لم يكن هناك مسوغاً للهروب إلا ما كان يقرأه الرئيس صالح في رؤوس الاشتراكيين من نوايا حقيقية أكيدة للانفصال، وليس للحوار السلمي.
وربما صار على الحزب الاشتراكي آنذاك أن يأخذ بنصح الرئيس علي عبد الله صالح إذ يقول: (علينا أن نتعلم كيف ندير خلافاتنا، وأن نتعلم من مدرسة الديمقراطية، ومدرسة الديمقراطية لا تعني الإساءة للآخرين وإثارة الحقد، ولكن الديمقراطية تعني البناء.. ونتعلم كيف نتخاطب ونتحاور مع بعضنا البعض، وكيف ندير خلافاتنا جميعاً من أجل الأمة، وليس من أجل مصالحنا وكراسينا في السلطة..)، وهو الدرس الذي تعلمه الاشتراكيون.. ولكن بعد فوات الأوان.
إن الرئيس صالح لم ينتصر سياسياً على المستوى الداخلي فقط، بل وحتى على الصعيد الخارجي بعد أن بذلت الدبلوماسية اليمنية جهداً كبيراً في إفشال مساعي المملكة العربية السعودية التي رمت بكل ثقلها في الدوائر الدولية من أجل الخروج بقرار دولي يعيد الاعتبار للوضع التشطيري السابق.
ثانياً: النصر السياسي الخارجي
يستمد انتصار السابع من يوليو 1994م مدلولاته العظيمة من كونه مثل إجهاضا عاجلاً لمؤامرة انفصالية داخلية، وأخرى انتقامية دولية خارجية تستمد مواقفها من خصوصياتها التاريخية أو إفرازات وضعها الإقليمي المعقد.
ففي الوقت الذي خاض فيه الرئيس علي عبد الله صالح حرباً مع الجناح الانفصالي للحزب الاشتراكي، تفتقت جبهات أخرى من خارج الحدود الوطنية للجمهورية اليمنية على نحو لم يسبق له مثيل في تاريخ اليمن الحديث. فقد تطلعت المملكة العربية السعودية ودول الخليج العربي إلى إدارة الحرب الأهلية اليمنية على طريقتها الانتقامية الخاصة التي ترمي من ورائها إعادة الوضع اليمني إلى حالته التشطيرية السابقة، ومن ثم إضعاف قوة الدولة اليمنية التي استقوى فيها نظام الرئيس صالح، وتحول إلى قطب إقليمي ودولي فاعل في سياسات المنطقة واحد لاعبيها الكبار.
فالمملكة العربية السعودية التي كانت قد قبلت بواقع الوحدة اليمنية على مضض ظلت آسفة على انتزاع الساحة اليمنية من قبضتها بعد أن كانت تمثل أحد أهم مراكز نفوذها الإقليمي. ويبدو أن الرياض لم تقطع رجاءها في استعادة ذلك النفوذ من خلال رهانها على إمكانية استقطاب إحدى القوى السياسية اليمنية وتوجيهها بما يخدم مصالح المملكة عبر عصا الأموال السعودية التي تحرك كل ساكن.
وكشر الموقف السعودي عن ناجديه أثناء الأزمة السياسية اليمنية وبشكل علني عندما استقبل الملك فهد بن العزيز نائب الرئيس اليمني علي سالم البيض بعد عودته من عمان عقب توقيع وثيقة العهد والاتفاق مما أعطى ذلك الاستقبال دلالة على قوة حجم الارتباط الكائن بين المملكة العربية السعودية والبيض وتطورات الأحداث في اليمن. وتحدثت المصادر والأنباء عن أموال سعودية طائلة قدمت لنظام البيض لشراء أسلحة حديثة وباهضة الثمن لتعينهم على إقرار كيانهم الانفصالي.. إضافة إلى أن السعودية جهزت قوات يمنية من المعارضين اليمنيين المقيمين في المملكة (قوات السلام) وعملت على إرسالهم للقتال مع القوات الانفصالية بعد إعلان الانفصال.
ولم تتوقف السعودية عند ذلك الحد، فبعد إعلان الانفصال في 21مايو 1994م، تحركت إقليمياً ودولياً لتتبنى قضية الدولة الجنوبية المعلنة، وتحرك الأمير بندر بن سلطان سفير السعودية في واشنطن داخل أروقة مجلس الأمن الدولي بغرض استصدار قرار عن المجلس يؤدي إلى إيقاف الحرب وإضفاء الشرعية الدولية على (الدولة الجنوبية) ( )، فكان أن صدر القرار رقم (921) الداعي لوقف الحرب لكن دون أية إشارة إلى ما كان يدور في خلد السعوديين .. علاوة على أنها قدمت دعماً إعلامياً كبيراً ومؤثراً لصالح الانفصاليين، وخصوصاً عبر القناة الفضائية (MBC)، وجريدة الحياة، والشرق الأوسط، ومجلة الوسط، ومجلة المجلة.
أما بالنسبة لبقية دول الخليج العربي، فإن الكويت التي كانت من الدول المعروفة بسخائها الكبير على اليمن، جاء موقفها كرد فعل على الموقف اليمني أثناء الغزو العراقي للكويت، فأيدت خصوم الرئيس صالح وقدمت الدعم المادي والمعنوي لهم، وبلغ الأمر مستوى تهديد وزير خارجيتها بأن بلاده ستعترف بالدولة الجنوبية.
في حين كان موقف الإمارات العربية المتحدة أن قدمت الدعم السياسي والإعلامي فقط، وفي الوقت نفسه تعامل الإعلام الإماراتي الرسمي بما يشبه حالة الاعتراف بالدولة المنفصلة، حيث إنه منذ يوم 24مايو 1994م بات يُطلق تسمية (فخامة الرئيس على النائب) علي سالم البيض. وقد فُسر هذا الموقف على أنه رد فعل شخصي من الشيخ زايد بن سلطان على رفض الرئيس صالح لمبادراته السلمية.
أما موقف سلطنة عمان فكان مؤيداً للانفصاليين بدعم مادي ومعنوي، وسمحت لرجل الأعمال العماني- اليمني الأصل- أحمد بن فريد الصريمة بالمشاركة في الحرب إلى جانب قوات الجنوب، كذلك لعبت دوراً داخل مجلس الأمن الدولي في استصدار قرارين حول اليمن لم تكن في صالح النظام السياسي الشرعي.
لكن الدولة الخليجية الوحيدة التي شذت في مواقفها عن الآخرين كانت دولة قطر التي لم تؤيد الانفصال ودعمت صنعاء مالياً وبموارد بترولية فضلاً عن تقديم دعم إعلامي رسمي مفتوح.. رغم ما تردد من أنباء عن كون ذلك الموقف لا يستند إلى خلفية سياسية استراتيجية بقدر ما هو نمط إفرازي للتوتر الحاصل بين الدوحة والرياض.
وربما كان الموقف الأغرب أثناء الحرب هو موقف الحكومة المصرية الذي جاء على لسان الرئيس حسني مبارك في مقابلة مع إذاعة (مونتيكارلو) قال فيه (إن دخول عدن يعتبر احتلالاً وإن الوحدة لا تفرض بالقوة). ورغم أن البعض يفسر الموقف المصري، بأنه مبني على أساس معلومات تفيد بوجود جماعات مصرية متطرفة تحت رعاية حزب الإصلاح حليف الرئيس صالح آنذاك، إلا إن الأرجح لذلك هو عدم رغبة النظام المصري في انتقال الدولة اليمنية إلى موقع استقطاب إقليمي وقومي قد يحرم القاهرة بعض امتيازاتها التاريخية من الناحية الاقتصادية إذا ما استقرت دولة الوحدة واستثمرت موقعها الاستراتيجي على البحر الأحمر والبحر العربي أولاً، ومن الناحية السياسية ثانياً من خلال ما عرف عن مهارة الرئيس علي عبد الله صالح في سرقة أضواء الساحة السياسية الدولية بما يقدمه من سلام واستقرار للمنطقة، فضلاً عن الثبات والمرونة والمصداقية التي إتصفت بها سياسته الخارجية المغرية للغرب.
وأخيراً فإن الوحدة اليمنية عززت صورة الزعامة القومية في شخص الرئيس صالح خصوصاً بعد تراجعها عن الساحة العراقية بعد اجتياح الكويت في 2 أغسطس 1990م. وقد يقود ذلك إلى حرمان النظام المصري من بعض موروثه العريق الذي جناه تحت مظلة الزعيم الراحل جمال عبد الناصر.. وربما ظل ذلك العامل يفسر العديد من مفردات السياسة المصرية إلى يومنا هذا إزاء اليمن، وفي مقدمتها استهجان النظام لدعوة الرئيس صالح خلال الانتفاضة الفلسطينية الثانية بفتح الحدود العربية أمام المتطوعين الراغبين بمؤازرة ودعم أبطال الانتفاضة.
وعلى كل حال، كانت المواقف السابقة تفرض على القيادة اليمنية في صنعاء فتح دفاعاتها على محاور عديدة تستدعي الكثير جداً من الجهد والحنكة السياسية والحركة الدبلوماسية الدقيقة التي لا تسمح للرئيس صالح بأي خطأ مهما كان نوعه أو حجمه، لأنه كان يعني خسارة كل الجبهات في آن واحد.
ولقد ساعد اليمن في هذه الفترة بالذات رصيدها الكبير من العلاقات الخارجية التي جنتها خلال العقد الماضي مع الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا على وجه الخصوص، فضلاً عن الخاصية النوعية التي اتسمت بها تلك العلاقات من وضوح ومصداقية وثبات ورغبة حقيقية في إنماء وشائج مصالح مشتركة ومتشابكة مع تلك الدول. فالإدارة الأمريكية ما لبثت أن راجعت حساباتها السابقة لحرب الخليج الثانية وعبرت عن امتنانها (لعدم تهور الحكومة اليمنية ولرفضها استخدام أراضيها لصالح العراق أسوة بغيرها من قوى الصراع)، أما الفرنسيون فقد وصفوا الموقف اليمني خلال حرب الخليج بأنه " تعقل يمني". ومن هنا كان بمقدور الرئيس صالح استثمار هذا الرصيد في الحيلولة دون تدويل القضية اليمنية مثلما كان البعض يسعى إليه، ونجحت الدبلوماسية اليمنية أيضاً في تحييد الولايات المتحدة والغرب في المرحلة الأولى من الحرب، ومن ثم كسبها في صف صنعاء بوجه النشاط الخليجي المحموم الرامي إلى إنزال أقسى العقوبات بحق نظام الرئيس صالح.
ووفقاً لدراسة أعدها الباحث الأمريكي " ما يكل هدسون" فإن هناك أربع نقاط رئيسية لارتكاز الموقف الأمريكي الداعم المساند لسياسة علي عبد الله صالح، وهي:
أولاً: قناعة واشنطن بأن الرئيس صالح قادر فعلاً على تدعيم مسيرة السلام في الشرق الأوسط.
ثانياً: إنه أيضاً صادق في نواياه لحل الخلافات الحدودية مع جيرانه سلمياً عبر بوابة الحوار الإيجابي.
ثالثا: إنه لا يسمح بتنامي الحركات الإرهابية على أراضيه.
رابعاً: ترى واشنطن إنه جاد في التزاماته لشعبه بالقيام بإصلاحات اقتصادية ليبرالية، وقد قطع أشواطاً عريضة على المسار الديمقراطي.
وفي الحقيقة أن الكثير من دول الغرب حرصت على الوقوف في صف الرئيس صالح- ولو من بعيد بالنسبة للبعض- خشية على انهيار الديمقراطية في منطقة شبه الجزيرة العربية والخليج العربي الذي تمثل التجربة اليمنية فيها تجربة يتيمة يتطلع العالم أن يقلدها الآخرون.
وأثناء الحرب استخدم الرئيس صالح جميع القنوات الدبلوماسية والسياسية، والعلاقات الشخصية الجيدة مع بعض دول العالم من أجل بناء موقف دولي نزيه يضغط به على الموقف الإقليمي العربي، ويوازن على أفقه القرارات الدولية، ويستطيع الحصول على الدعم من خلاله إذا ما امتد زمن الحرب الانفصالية إلى أمدٍ بعيد وغير محسوب تماماً.
وبانتصار القوات الشرعية على الجيوب الانفصالية يكون الرئيس صالح قد أعلن نفسه القوة السياسية الإقليمية الأقوى والأدهى ذكاء من غيره، ويكون قد وجه لدول المنطقة رسالة عاجلة مفادها إن دولة الرئيس صالح قد استقلت، وتعاظم شأنها، ولم تعد ألعوبة لمراهنات سعودية وخليجية وأجنبية وأن انتصارها على الحركة الانفصالية يمثل انتصاراً على الاختراق الخليجي لمؤسسة الحكم اليمني، واستئصال كلي لتأثيراته في الساحة اليمنية.
وبالرغم مما عرف به الرئيس صالح من تحفظ في تداول خلافات بلاده مع دول الجوار العربي بصورة علنية فاضحة، إلا أنه أثناء الحرب لم يتورع في الإفصاح عن موقف صريح جداً وحازم إزاء المؤامرات الخارجية التي تدبرها دول الجوار للدولة اليمنية. ففي حديث له بمؤتمر صحفي في صنعاء بتاريخ 8 يونيو 1994م قال: (كنا نتمنى أن تبذل جهود أو مساع من قبل دول الجوار وما كنا نريد أن تبذل هذه الجهود التي أتعبت الأشقاء من أجل تبني مثل هذا القرار في مجلس الأمن لتصبح القضية اليمنية في إطار دولي، وإذا كان الجيران حريصين على عدم إراقة الدم اليمني كان بالأحرى كف أيديهم عن تبني مثل هذه القرارات أو التدخل في الشئون الداخلية لأن التدخل يطول أمد الصراع في اليمن).
وفي سياق حديثه عن التمويلات الخارجية للحرب الانفصالية أضاف: (نحن نؤمن بالحوار السياسي وقد بذلنا جهوداً كبيرة من أجله، ولكن الحل العسكري فرض علينا من قبل الانفصاليين خاصة وهم استلموا أموالاً باهضة، وعندما اختاروا خيار الحرب كانوا قد زودوا بعدد من الأسلحة منها طائرات سوخوي (سرب) وكتيبتي مدفعية ذاتية الحركة من بلغاريا والمجر ومدافع وغيرها، وتم الاستيلاء على حوالي (400) مدفع و(300) مدرعة وغيرها، وهناك معلومات تفيد بأنهم أبرموا عقوداً جديدة لتوريد سرب طائرات من نوع ميج- 29 وعدد من الدبابات تي-82 وصواريخ تكتيكية).
وفي 28 يونيو 1994م، وأثناء حضور الرئيس صالح المهرجان التضامني الذي أقامته اللجنة العربية للدفاع عن الوحدة، وجه الرئيس دعوة ساخرة للأنظمة العربية المتآمرة على وحدة اليمن قائلاً: (إن دموع التماسيح التي تذرف الآن على الدم اليمني من قبل بعض الأنظمة نقول لهم ومن هنا، ومن قاعة جمال عبد الناصر العربي الفذ، لا تذرفوا دموع التماسيح بل كفوا الأذى عن شعبنا والتدخل في شئونه الداخلية).
ثالثاً: النصر العسكري
لم يواجه الرئيس صالح في حرب صيف 1994م جماعة انفصالية متمردة على السلطة، بل واجه كياناً انفصالياً بمقومات دولة، طالما حرص المعسكر الاشتراكي في إعدادها وتسليحها وتدريبها ضمن مشاريع الحرب الباردة بين القطبين العالميين، وكانت عدن أول من تسلح بصورايخ " سكود" في الشرق الأوسط عام 1979م، وقد لجأت إلى استخدامها في حرب الانفصال لضرب المدن اليمنية الخاضعة لسيطرة قوات الرئيس صالح.
ورغم التحديث الذي طرأ على المؤسسة العسكرية والأمنية للرئيس صالح، فبالحسابات العسكرية تبقى كفة القوة لصالح القوات (الجنوبية) من حيث المعيار النوعي للآلية الحربية. ولكن الرئيس صالح اتخذ عدداً من التدابير التي من شأنها معادلة تلك القوة.. فقد استثمر معطيات النصر السياسي الذي أحرزه في الفترة السابقة في توجيه مفردات التعبئة الإعلامية مدنياً وعسكرياً وإذكاء جذوة الدفاع عن الوحدة في نفوس أبناء الشعب اليمني الواحد. وبدا حريصاً جداً على كسب ثقة العسكريين من أبناء المناطق الجنوبية وتفكيك صفوف وحدات الجيش الذي يقوده الحزب الاشتراكي وذلك من خلال الخطابات السياسية والمناشدات والبيانات التي كان يوجهها لأفراد تلك الوحدات بلسان القائد الشرعي الواثق من النصر، وبلغة متحفظة وخالية من التجريح أو الاستفزاز أو التجريم العام لجميع أعضاء الحزب الاشتراكي، وعلى أساس فرزهم إلى وحدويين وانفصاليين فيقول في إحدى مناشداته في 11 مايو 1994م:
(أدعو جميع الضباط والصف والجنود من القوات المسلحة والأمن الذين يقفون تحت سيطرة الشرذمة الانفصالية أن يرفضوا الأوامر في معسكراتهم، أما الوحدويون في الحزب الاشتراكي فعليهم أن يحددوا الآن موقفهم بوضوح من تلك العصابة المجرمة وأن يلتفوا حول الوحدة والشرعية الدستورية ويرفضوا قرارات العصابة الانفصالية صاحبة قرار الحرب وأن يكونوا قدوة في سلوكهم..). ومثل تلك النداءات كانت تلقي استجابة ملحوظة لعبت دوراً مهماً في تثبيت قوة القيادة الانفصالية وإلحاق الهزيمة بها، حيث أخذت جموع غفيرة من الضباط والمراتب تفر من الجنوب لتنظم إلى الوحدات العسكرية (الشمالية) رافضة أية عودة للوراء. ومن جهة أخرى كانت لزيارات الرئيس صالح للعديد من المعسكرات والوحدات أثرها في تعميق روح التضحية والاستبسال بين صفوف الجيش من أجل حماية المنجز الوحدوي، وهو ما ساهم في رفع روحهم المعنوية القتالية التي عادلت التباين في الآليات الحربية.
كما أن الرئيس صالح أحسن التعامل بذكاء مع الوحدات العسكرية الضاربة الخاضعة لسيطرة الاشتراكي والمنتشرة حول العاصمة صنعاء تتحين فرص الانقضاض على العاصمة، ولكن بتكتيكات القيادة اليمنية الشرعية تم حسم أمرها أولاً قبل الانفتاح على امتداد الشريط التشطيري السابق، مما أسقط رهان الجبهات المتعددة التي يضعها المخطط الانفصالي لإدارة الحرب.. وبالنهاية فإن النصر العسكري تحقق بفضل الله وبقيادة ذكية للحرب، وإرادة شجاعة في الإقدام على مواجهة أكبر التحديات في تاريخ دولة الوحدة. وقد ضرب الرئيس صالح أثناء المعركة مثالاً فريداً في العفو عند المقدرة حين أصدر قرار العفو العام في 23 مايو 1994م عن كل المغرر بهم في الحرب الانفصالية باستثناء (16) قيادياً ممن قادوا الحرب وتعمدوا تدمير البنية التحتية للوطن. مع العلم إن حتى هؤلاء مجموعة ال (16) ما لبث أن أصدر الرئيس صالح قرار عفو عنهم في 21 مايو 2003م ووجه الدعوة لهم بالعودة والمشاركة في بناء الوطن.. وقد لقي هذا القرار ترحيباً كبيراً جداً وامتناناً من قبل تلك القيادات، ووصف المراقبون القرار بأنه من أعظم قرارات الرئيس السياسية في هذا القرن.
رابعاً: النصر الجماهيري
حقق الرئيس صالح من خلال حرب صيف 1994م نصراً جماهيرياً لم يسبق لأحد من قبله أن حققه أو حظي بمثله.. فمن خلال إدارته الناجحة للأزمة السياسية السابقة للحرب استطاع وضع الشارع اليمني على المحك مع مفردات الأزمة بأدق تفاصيلها، ومن ثم تعرية مخططات التصعيد والتعقيد للمسائل اليمنية المختلفة والتي ضيقت فرص التعاطف الجماهيري على تيار البيض، من خلال إلقائها اللوم على مطالبه المتزايدة من غير توقف مقنع، واستغلاله لظروف الساحة اليمنية الداخلية والخارجية للمساومة على مكاسب سلطوية لم يعد بالإمكان تمريرها على الجماهير التي أصبحت تلتهم كل ما يقع تحت أيديها من بيانات ومقالات وتحليلات وخطابات متعددة التوجهات والمصادر هيأتها مناخات الديمقراطية والحريات الإعلامية، لتبني على أساساتها مواقفها الشعبية والوطنية.
ومن جهة أخرى، كان من الطبيعي أن يتباين الاصطفاف الجماهيري كثيراً بين حالتي الوقوف على المسار الوحدوي، أو الوقوف على المسار الانفصالي. فالوحدة بالنسبة للشعب اليمني كانت بمثابة مطلب شعبي تاريخي حقيقي ولا يمكن تحديده ضمن قالبه الثوري السبتمبري لحصره في مفاهيم ضيقة لا تتعدى خصوصيته (الشمالية). وهو الأمر الذي جعل إمكانية إيجاد حلف انفصالي مع قوى سياسية وطنية أو قبلية أو طائفية أو طبقية ضرب من المستحيل، وقد سبق للحزب الاشتراكي العزف على أوتاره أثناء الأزمة، وراهن على مؤتمرات قبلية وفتن طائفية، سرعان ما تبين أن الوحدة هي الخط الأحمر الذي تقف عنده كل القوى الوطنية وترفض حتى النقاش فيه أو المساومة عليه بأي ثمن كان.
ما كان الرئيس صالح ليجازف ويزج قواته فيما اجتهدت قيادات الانفصال لجره إليه لولا ثقته بما يعنيه وقوفه بإصرار على أرضية المطلب الوحدوي عند أبناء الشعب اليمني من الشمال إلى الجنوب.. وظل حريصاً على تعزيز تلك القيم التاريخية في الساحة اليمنية وتعبئة الجماهير بمدلولاتها العميقة بصورة شبه يومية سواء من خلال اللقاءات المباشرة أو عبر وسائل الإعلام.
ولا غرابة إذا ما وجدنا الرئيس صالح يشد من عزائم قواته المسلحة بالموقف الجماهيري المدني المؤازر، ففي زيارته لمعسكر ظفار بيريم ومعسكر الفتح بذمار في 11 يونيو 1994م خاطب أفراد الجيش بقوله: (إن وراءكم شعباً عظيماً يلتف حولكم ويساند جهودكم ويرفد عطاءكم وتضحياتكم من أجل أن تبقى راية الوحدة اليمنية خفّاقة في ربوع الوطن اليمني الواحد.. فالوحدة هي العزة والكرامة والمجد والاستقرار، ولا تفريط في الوحدة مهما كان الثمن ومهما قدم شعبنا وقواته المسلحة من التضحيات ولا مستقبل لليمن إلاّ بالوحدة).
وفي موقع آخر كان الرئيس صالح يرفع شعار " الوحدة أو الموت" وهو ما يعني انها خيار استراتيجي مصيري لا عودة فيه، ولا مساومة عليه، ولربما يتضح بتجلي حجم رهان المؤتمر الشعبي العام على كسب معركة الوحدة بقول الرئيس صالح: (لقد كنا مستعدين أن نقدم مليون شهيد من أجل أن تبقى وحدتنا.. وقد عملنا حسابنا لحرب قد تدوم ست أو سبع سنوات..).
ذلك الإصرار الحكومي قوبل بمثله من الجماهير اليمنية التي سعت إلى ترجمة إرادتها الوطنية بصيغ ومبادرات شعبية عبرت بها عن تلاحمها الكامل مع قيادة الرئيس علي عبد الله صالح في جهوده الرامية لحماية الوحدة اليمنية.
شهدت فترة الحرب البالغة (63) يوماً تشكيل لجان شعبية لدعم المجهود الحربي، أقبل المواطنون عليها في لوحة كرنفالية يصعب وصفها بدقة.. لكن كل ما يمكن قوله إنها انتهت بحصيلة تقدر بمئات الملايين من الريالات، وكميات كبيرة من المصوغات الذهبية والفضية مما جادت بها النسوة.. وتحركت من مختلف المناطق مئات الشاحنات في قوافل طويلة محملة بالكعك المنزلي ومختلف أصناف المواد الغذائية، قاصدة جبهات القتال، وغير مبالية لمخاطر الموت المحدقة بها.
ومن واقع معايشتي لإعلان الوحدة ثم الأزمة فالحرب كنت أفهم جيداً ما تعنيه الوحدة بالنسبة لليمنيين وأراها في وجوههم كما نبض الحياة، ولو أن القيادات الانفصالية لم تشغل نواظرها بوجوه المتربصين خلف الحدود لأدركوا ما كان يراه غيرهم، وأيقنوا أن الانفصال ليس إلا خيار الانتحار في اليمن.. وإلا فأي معنى قد يستوحيه المرء من شعب تضع نساؤه الخواتم والأقراط في قطع الكعك المرسلة لجبهات القتال أو تنقش عليها آيات التكبير والتهليل وابتهالات النصر والحماية.. !
تلك ثقافة الوحدة اليمنية المغروسة، وواحدة من قيم وأخلاقيات المجتمع عبر التاريخ والتي كانت متجذرة في فكر الرئيس صالح، وجزء أصلي في هويته السياسية الوطنية.. وهو الأمر الذي ساعده على اقتحام هذا المدخل الاضطراري الشاق للحرب رغم علمه بأنها قد تتخذ طابع الحرب الاستنزافية طويلة الأجل التي لا تمتلك صنعاء من إمكانياتها سوى الإرادة البشرية الصلبة.. ولا شك أن ذلك الافتراض ظل حاضراً على الدوام في التجارب العالمية المماثلة، وكان يمكن أن يتحول إلى أمر واقع لو اختلفت النظرة للوحدة اليمنية عند أبناء المناطق الجنوبية من اليمن الذين يخضعون لهيمنة السلطات الأنفصالية من الحزب الاشتراكي اليمني.. فعزوفهم عن القتال ورفضهم الانصياع لأوامر قيادات الانفصال سهل مهمة الرئيس صالح، ودفع عن الجمهورية اليمنية بلاءً كبيراً وقى الله اليمنيين شره.
وفي الحقيقة إن حجم الالتفاف الجماهيري حول قيادة الرئيس صالح أثناء الحرب وبعدها ترجم انتصاراً شعبياً وطنياً مترامي الأبعاد عزز مفاهيم الوحدة الوطنية أيضاً خلافاً لما كانت ترجوه بعض القوى الخارجية.. وبالتالي فإن الرئيس صالح سيستثمر الصفوف الجماهيرية في إزالة آثار الحرب وإعادة بناء ما دمرته عن عمد الجيوب الانفصالية.. وهي المسألة التي احتلت محوراً هاماً في خطاباته السياسية لمرحلة ما بعد حرب الانفصال. فقد دعا الرئيس إلى: (الآن وقد تحقق النصر وترسخت الوحدة حان الوقت لأن تتشابك الأيدي لتجاوز آثار ما خلفته الحرب وإحداث تنمية حقيقية في الوطن تماماً مثلما تشابكت كل الأيدي الشريفة للقضاء على الفتنة وتحقيق النصر، وحان الانطلاق نحو ميادين العمل والإنتاج لنبدأ تاريخاً جديداً للوطن اليمني..).
ومن المؤكد إننا إستَقَينا أهمية إفراد باب خاص بهذه الحقبة من الحقيقة التي أكدها الرئيس صالح باعتبار أن مرحلة ما بعد 7 يوليو 1994م هي مرحلة تاريخية جديدة بكل مفرداتها وخطوط عملها وتحولاتها الوطنية والقومية والعالمية، كما سنرى ذلك في الفصول القادمة.
الملف عن كتاب (علي عبد الله صالح .. تجارب السياسة وفلسفة الحكم)
تأليف : نزار خضير العبادي
حقوق النشر حصراً ل(نبأ نيوز)


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.