ضوء غامض يشعل سماء عدن: حيرة وتكهنات وسط السكان    العدالة تنتصر: قاتل حنين البكري أمام بوابة الإعدام..تعرف على مراحل التنفيذ    أتالانتا يكتب التاريخ ويحجز مكانه في نهائي الدوري الأوروبي!    الدوري الاوروبي ... نهائي مرتقب بين ليفركوزن وأتالانتا    متصلة ابنها كان يغش في الاختبارات والآن يرفض الوظيفة بالشهادة .. ماذا يفعل؟ ..شاهد شيخ يجيب    في اليوم 216 لحرب الإبادة على غزة.. 34904 شهيدا وأكثر من 78514 جريحا والمفاوضات تتوقف    قوة عسكرية جديدة تثير الرعب لدى الحوثيين وتدخل معركة التحرير    لا وقت للانتظار: كاتب صحفي يكشف متطلبات النصر على الحوثيين    الحوثي يدعو لتعويض طلاب المدارس ب "درجات إضافية"... خطوة تثير جدلا واسعا    مراكز مليشيا الحوثي.. معسكرات لإفساد الفطرة    استهداف الاقتصاد الوطني.. نهج حوثي للمتاجرة بأوجاع اليمنيين    ولد عام 1949    الفجر الجديد والنصر وشعب حضرموت والشروق لحسم ال3 الصاعدين ؟    فرصة ضائعة وإشارة سيئة.. خيبة أمل مريرة لضعف استجابة المانحين لليمن    منظمة الشهيد جار الله عمر تعقد اجتماعاً مع هيئة رئاسة الرقابة الحزبية العليا    هموم ومعاناة وحرب خدمات واستهداف ممنهج .. #عدن جرح #الجنوب النازف !    بلد لا تشير إليه البواصل مميز    باذيب يتفقد سير العمل بالمؤسسة العامة للاتصالات ومشروع عدن نت مميز    أمين عام حزب الشعب يثمن موقف الصين الداعم للشعب الفلسطيني وحقوقه المشروعة مميز    دواء السرطان في عدن... العلاج الفاخر للأغنياء والموت المحتم للفقراء ومجاناً في عدن    بعثات دبلوماسية تدرس إستئناف عملها من عدن مميز    لعنة الديزل.. تطارد المحطة القطرية    منذ أكثر من 70 عاما وأمريكا تقوم باغتيال علماء الذرة المصريين    الخارجية الأميركية: خيارات الرد على الحوثيين تتضمن عقوبات    رئيس مجلس القيادة يكرّم المناضل محمد قحطان بوسام 26 سبتمبر من الدرجة الأولى    تضرر أكثر من 32 ألف شخص جراء الصراع والكوارث المناخية منذ بداية العام الجاري في اليمن    المحكمة العليا تقر الحكم بإعدام قاتل الطفلة حنين البكري بعدن    اعتدنا خبر وفاته.. موسيقار شهير يكشف عن الوضع الصحي للزعيم ''عادل إمام''    الأسطورة تيدي رينير يتقدم قائمة زاخرة بالنجوم في "مونديال الجودو – أبوظبي 2024"    تصرف مثير من ''أصالة'' يشعل وسائل الإعلام.. وتكهنات حول مصير علاقتها بزوجها    الرئيس الزُبيدي يطّلع على سير العمل بوزارة الخارجية وشؤون المغتربين    "صحة غزة": ارتفاع حصيلة الشهداء إلى 34 ألفا و904 منذ 7 أكتوبر    وفاة الشيخ ''آل نهيان'' وإعلان لديوان الرئاسة الإماراتي    الدين العالمي يسجل مستوى تاريخيا عند 315 تريليون دولار    امتحانات الثانوية في إب.. عنوان لتدمير التعليم وموسم للجبايات الحوثية    5 دول أوروبية تتجه للاعتراف بدولة فلسطين    ريال مدريد يقلب الطاولة على بايرن ميونخ ويواجه دورتموند في نهائي دوري أبطال أوروبا    أسعار صرف الريال اليمني مقابل العملات الأجنبية اليوم الخميس    تصاعد الخلافات بين جماعة الحوثي وحزب المؤتمر والأخير يرفض التراجع عن هذا الاشتراط !    بعد وصوله اليوم بتأشيرة زيارة ... وافد يقتل والده داخل سكنه في مكة    جريمة مروعة تهز مركز امتحاني في تعز: طالبتان تصابا برصاص مسلحين!    قصر معاشيق على موعد مع كارثة ثقافية: أكاديمي يهدد بإحراق كتبه    دوري ابطال اوروبا .. الريال إلى النهائي لمواجهة دورتموند    مدير عام تنمية الشباب يلتقي مؤسسة مظلة    لماذا تقمع الحكومة الأمريكية مظاهرات الطلبة ضد إسرائيل؟    استشهاد وإصابة 160 فلسطينيا جراء قصف مكثف على رفح خلال 24 ساعة    أجمل دعاء تبدأ به يومك .. واظب عليه قبل مغادرة المنزل    وزير المياه والبيئة يبحث مع اليونيسف دعم مشاريع المياه والصرف الصحي مميز    صفات أهل الله وخاصته.. تعرف عليها عسى أن تكون منهم    شاهد: قهوة البصل تجتاح مواقع التواصل.. والكشف عن طريقة تحضيرها    البشائر العشر لمن واظب على صلاة الفجر    البدعة و الترفيه    الشيخ علي جمعة: القرآن الكريم نزَل في الحجاز وقُرِأ في مصر    تعز: 7 حالات وفاة وأكثر من 600 إصابة بالكوليرا منذ مطلع العام الجاري    ها نحن في جحر الحمار الداخلي    في ظل موجة جديدة تضرب المحافظة.. وفاة وإصابة أكثر من 27 شخصا بالكوليرا في إب    تعز مدينة الدهشة والبرود والفرح الحزين    صحيح العقيدة اهم من سن القوانين.. قيادة السيارة ومبايض المرأة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الوحدة اليمنية.. الظرف التاريخي وأولويات الرئاسة (دراسة)
نشر في نبأ نيوز يوم 22 - 05 - 2007

ارتبط ترجيح الرئيس علي عبد الله صالح لأولويات الرص الوحدوي للصفوف الوطنية بالجانب التاريخي من شخصيته والذي تشكلت على أفقه المقروء مفردات ثقافته السياسية. فانطلاقه من أرضية الاستيعاب العميق لحقائق التجارب التاريخية السابقة أفضى به إلى تقديم خيار الدعامة الجماهيرية للحكم على كل الفرضيات العلاجية الأخرى. وهو أمر مستوحى من عدة تجارب سابقة أودت بأرواح أربابها بعد أن استفحلت الأزمة الوطنية وبلغت ذروتها دون إدراك أهمية الوحدة الوطنية في تقرير مصير العمل السياسي وأنظمة الحكم إلا بعد فوات الأوان، ومن تلك التجارب:
1- دعوة القاضي محمد محمود الزبيري إلى تأليف مؤتمر شعبي في الفترة 2-5/5/1965م خلال "مؤتمر السلام" فكان أن استشهد بعد ذلك ببضعة أيام فقط.
2- إصدار الرئيس السلال و(13) رمزاً قيادياً في نظامه بياناً يدعو لوضع (ميثاق وطني) بتاريخ 31/10/1967م. فكانت النتيجة أن أطيح بحكمه بانقلاب بعد أربعة أيام فقط من البيان.
3- الرئيس الحمدي بدأ في منتصف عام 1977م الإعداد والتحضير لعقد (مؤتمر شعبي)، لكنه أغتيل بعد ثلاثة أشهر.
4- أما الرئيس القاضي الإرياني والرئيس الغشمي فإن ضياع الوحدة الوطنية كان سبباً رئيسياً وراء ضياعهما أيضاً. وطبقاً لذلك نجد أن السلطة ظلت تهمش ثقل القوى الوطنية، حتى إذا تدهورت أوضاعها راحت تسترضيها وتحاول الاحتماء خلف ظهورها، ولكن بعد أن تكون قد استقوت واستشرى نفوذها ولم يعد بالإمكان احتواء نقمتها ومداواة الآلام التي كابدتها على يد السلطة من إقصاء وزج بالسجون والتصفيات والإهانات وغيرها. ومن جهة أخرى فإن المشاريع الثلاثة الآنفة الذكر قدمت رؤى ناقصة لتوليفة الوحدة الوطنية، فاثنين منها اقترحت مؤتمراً شعبياً يجمع القوى الوطنية ولم تشر قط إلى طبيعة الأفكار والعقائد التي يمكن أن تلتقي داخل أطرها تلك الحشود. بينما بدت مبادرة الرئيس السلال أقرب إلى مناورة يائسة وغريبة لم تأخذها أي جهة على محمل الجد.
أما الرئيس علي عبد الله صالح فقد مر على تلك الفترات العصيبة، ووقف على أخطائها أو مواضع إخفاقها، ولم يكتف بتحاشي تكرارها، بل ذهب إلى صياغة البدائل، ورسم معادلات توازن جديدة وذات خصوصية يمنية تسير بمحاذاة الواقع اليمني دون أن تتجاوزه إلى أي مستوى كان من المثاليات الفكرية والقوالب السياسية الجاهزة.
الرئيس علي عبد الله صالح لم ينتظر حتى يبلغ التشتت الوطني أقصى مداه فيستنجد بالجماهير، ويرمي الشباك للقوى الوطنية باسم مؤتمر شعبي أو ميثاق وطني.. بل على العكس من ذلك فقد جاء القرار الجمهوري رقم (5) لسنة 1980م عقب عدة خطوات سابقة عززت الثقة بنوايا الرئيس صالح وجديته في تطوير مناهج حكم الدولة حتى لدى أشد المناوئين له. فمثلاً كان هناك تأسيس لمجلس شورى، وانتخابات مجالس بلدية، وتوسيع في إعداد واختصاصات مجلس الشعب، وإصدار قانون انتخابات وغيرها.
علاوة على ذلك لم يكن القرار أحادي الأسس، بل شمل الفكر والأداة معاً في نفس القرار وذلك الأمر أعطى الموضوع فهماً أوسع وأوضح ، وجعله أكثر تقبلاً في الوسط الجماهيري. خاصة وأنه يؤسس بدايات عهد سياسي جديد، وليس نهاياته المحتضرة.
اعتمد الرئيس علي عبد الله صالح في شق الطريق إلى الوحدة الوطنية لغة الحوار السلمي والتشاور وكان في مقدمة الأسباب التي أوصلت الرئيس صالح إلى مكسب الوحدة الوطنية هو التمهيد المسبق للعمل، حيث أنه حرص على الالتقاء مع قيادات القوى الوطنية السياسية والاجتماعية، والتشاور معهم فيما كان يعزم الإقدام عليه، والأخذ بالآراء والمقترحات الجيدة التي عرضوها عليه.
بجانب ذلك فأنه حرص أيضاً على عدم تجاهل أو تهميش أية قوى وطنية ذات أثر في ساحة العمل السياسي، مهما كان موقفها من نظام الحكم، لدرجة أن الجبهة الوطنية الديمقراطية التي كانت تقود حرب العصابات على الحدود بين الشطرين وتهاجم القرى والمدن الخاضعة لنفوذ الشطر الشمالي، حصلت على فرصة عادلة من الحوار والمشاركة في لجنة الحوار الوطني التي اضطلعت بمهمة صياغة مشروع الميثاق الوطني، أسوة بغيرها من التيارات العاملة في الساحة اليمنية.
أما العنصر الآخر في تركيب المعادلة السياسية بين القوى الوطنية فقد تمثل في نسبة 30% الثلاثون بالمائة التي خصّ بها القرار الجمهوري رقم(9) لسنة 1981م رئاسة الجمهورية لتتولى تعيينهم، فيمكن تقييمها على إنها التفاتة ذكية من صُنّاع القرار السياسي اليمني، كانت ترمي إلى موازنة المشاركة السياسية برموز فعالة ومؤثرة وفسح المجال أمام بعض العناصر السياسية التي كانت مستبعدة في العهود السابقة للمشاركة، وهو أمر أسهم في حل بعض الخلافات السياسية، وتخفيف شحنة التوتر بين القوى الوطنية، وظهور إمارات الارتياح والرضا إلى حد ما من الجهود التي كان يبذلها الرئيس علي عبد الله صالح لتوحيد صفوف الوطن.. ولعل من أبرز صور ذلك الارتياح والرضا تجسد في سرايا المقاومة الشعبية (الجيش الشعبي) التي تشكلت في القرى والمدن اليمنية المختلفة لإسناد الوحدات العسكرية الحكومية في الحرب التي كانت تخوضها لمواجهة العصابات التخريبية الماركسية. وذهب بعض الكتاب والباحثين. إلى عزو نصف النصر الذي بدأ يتحقق منذ منتصف عام 1981م وحتى يوم (15 أغسطس 1982م) الذي توقفت فيه العمليات القتالية- إلى تضاعف الالتفاف الشعبي الجماهيري من مختلف القوى الوطنية حول قيادة الرئيس علي عبد الله صالح.
بالرغم من كون تأسيس المؤتمر الشعبي العام جاء في إطار ملء الفراغ السياسي في ظل دستور دائم تحرم المادة (37) منه العمل الحزبي، إلا أن النتيجة التي نخلص إليها هي أن الميثاق الوطني الموصوف بالأساس الفكري للمؤتمر الشعبي العام قد اكتسب شرعيته الجماهيرية الوطنية من خلال صياغته على يد جميع القوى السياسية التي كانت قائمة آنذاك بما فيها القوى المعارضة للسلطة مثل (الجبهة الوطنية الديمقراطية) و(الناصريين حاولوا بالأمس القريب الإطاحة بنظام حكم الرئيس صالح) وغيرهم. ومن ناحية ثانية، فإن المؤتمر الشعبي العام مثل وجهاً حقيقياً للإئتلاف الشعبي العام كونه ضم بين صفوفه مختلف التيارات السياسية والقوى الوطنية التي كانت متواجدة على الساحة في زمن انبثاقه.. وعليه يصبح كل ما تحقق أولى الغايات الوطنية والأهداف الثورية التي ينجزها الرئيس علي عبد الله صالح.. ولكن بشق الأنفس.
أن الأهمية التي يعطيها الرئيس صالح لهذه الخطوة تأتي من كونها قاعدة ارتكاز عوامل استقرار البلاد، وأمنها الوطني وهي العوامل التي لا بد منها في أية صناعة حضارية وبناء تنموي سريع. وذلك الفهم مستوحى من تجربة تاريخية عريقة لم يخف الرئيس انبهاره بدروسها، فيقول: (إن شعبنا لم يصنع حضارته القديمة إلا في ظل الاستقرار والأمن والسلام، ولم يتحقق له ذلك إلا في ظل الأرض والشعب والحكم، ولم تتحقق له الوحدة إلا في ظل حكم يقوم على الشورى والمشاركة الشعبية).
مما تقدم ذكره تتجلى أمامنا صورة الرئيس علي عبد الله صالح بملامحها الفذة، وبريقها الوطني الصادق، ومهاراتها الخلاقة، وإنسانيتها الدفاقة التي لا يمكن لأبناء الأمة إعطاؤها حق قدرها حتى يعرفوا أنه الزعيم العربي الوحيد الذي يقطع مسيرة ربع قرن في الحكم بلا معتقلات سياسية، أو مطاردة أمنية واحدة لمعارضٍ ينتقد نظامه علناً.. لا شك إن أقصر الطرق للوصول إلى شخصية الرئيس علي عبد الله صالح هي بالوقوف على ناصية أقرب " كشك" لبيع الصحف في أي بقعة من اليمن.
أهم أوراق الوحدة الوطنية هي تلك التي حددت داء الوطن اليمني، وفسرت لغز الانحدار السياسي والانهيار التنموي، والشتات الثوري، ثم مضت تنسج فكر الجماهير، وتنتشل الفرد من زمن الاغتراب، وتراهن على كونه أداتها الوحيدة في التغيير وقيادة التحولات الاستراتيجية.
الورقة التي نحن بصددها كتبها الرئيس علي عبد الله صالح، وعلى ضوء أفكارها ولد مشروع الميثاق الوطني، وولد المؤتمر الشعبي العام، وأصبحت معيار تقييمنا لأهمية ما أنجزه الرئيس صالح.. وسأقتطف نصوص متفرقة من أحاديثه في هذا المضمار:
- (بدأ شعبنا يعاني من آلام جديدة ومستجلبة غير تلك الآلام التي دفنها وتحرر منها وإلى الأبد، آلام ارتبطت بالتيارات السياسية والفكرية الدخيلة التي ظل يسيل لعابها لهثاً لاحتواء مسيرة الثورة واستلاب الإرادة اليمنية وامتلاكها نتيجة الفراغ السياسي المتفاقم الذي أثمر الصراعات الثانوية، وهو ما مثل تهديداً خطيراً للثورة ولوحدة الشعب الوطنية ولطموحاته في تسيير أموره…)
- (.. في الوقت الذي لم يتم القضاء على كل تلك التيارات الدخيلة بمجرد الإعلان عن تحريمها لكنها كانت تعشش وتستشري في الخفاء وتحت رماد السرية، وهو الأمر الذي جعلنا جميعاً وكل الغيورين على الثورة والوحدة الوطنية على اقتناع تام بضرورة التحصين الفكري الكامل للثورة ومسيرتها وأنه لابد في مواجهة التيارات الفكرية الغازية والمتسربة من فكر وطني يمني يواجهها، ويكون فعلاً المتراس الذي يتصدى لها، في الوقت الذي يكون المرشد والهادي لمسيرة الثورة..).
- (إذا كان سوء معظم الأقطار العربية قادماً من خارجها في شكل انتداب أو تسلط أجنبي مباشر، فإن داء اليمن متمثل في انقسامها إلى شعب مظلوم في جانب ونظام إمامي متخلف في جانب آخر..).
- (إننا على يقين من أن شعبنا قادر على أن يمارس حقه في الديمقراطية على أكمل وجه..).
• لماذا أخفقت محاولات أخرى؟
تأرجحت قضية الوحدة على حبال المتغير السياسي الوطني لفترة غير قصيرة لتتذبذب مفاهيمها الفكرية في عهود ثلاثة من الرؤساء اليمنيين (الإرياني، الحمدي، الغشمي) بين مد وجزر ومناورة تصطبغ الوحدة خلالها بعدة صفات مختلفة يمكن تحديدها في:
1- الوحدة كشعار سياسي تعبوي- يلجأ إليه النظام كلما ضاقت به السبل بهدف استقطاب الساحة الجماهيرية وكسب تعاطفها مع السلطة، باعتبار الوحدة حلم كل أبناء الشعب وعقيدته الإيمانية الراسخة.
2- الوحدة كمخرج سياسي من مأزق عسكري أو توتر حدودي يقلق مستقبل النظام، وهو المفهوم الذي تجلى بوضوح في حرب عام 1972م وأحداث عام 1973م أيضاً.
3- الوحدة كفلسفة سياسية حزبية تحدد أدبيات فكر السلطة التي لا ترى فيها أكثر من بناء مرحلي للقاعدة الشعبية الموالية للسلطة أولاً، وإضفاء المزيد من الشرعية على وجودها ثانياً، والمناورة الداخلية والخارجية بها ثالثاً. وهو المفهوم الذي اقترب منه عهد الرئيس الحمدي.
4- الوحدة كمشروع سياسي وطني لا يتعدى رغبة العودة إلى حالة تاريخية سابقة ومن غير الإقدام عليه بمنهج واضح، أو أدوات مناسبة، أو تخطيط سليم وفق معطيات برامجية متيسرة. وهذه الحالة كانت تمر بها القوى الوطنية المختلفة دون أن تجد ما يعززها مادياً في أجهزة النظام. إن تنوع صفات الوحدة على النحو الذي ذكرناه لا ينفي عن أنظمة الحكم التي بلورتها إيمانها الحقيقي بالوحدة، بل إنها تؤكد ذلك الإيمان. لكنها في الوقت نفسه تبرهن حقيقة أخرى مفادها هو أن اضطراب السلطة وعدم استقرارها، ووقوعها تحت ضغط التدخلات الخارجية من جهة ومراكز النفوذ الداخلية من جهة أخرى، ونظراً لضيق أفق تصوراتها السياسية لمسألة الوحدة.. فشلت في بلورة استراتيجيات سياسية واثقة على المسار الوحدوي، وبالتالي اصطفت كل جهودها بهذا الخصوص على الوصف الذي رسمناه لها.
ونتيجة لذلك الاستخدام السيئ لآليات البناء الوحدوي، تشكلت ظاهرة التكريس التراكمي للتجزئة والتشتت ليس بين الشطرين وحسب، بل وفي الشطر الواحد نفسه بحيث انقسمت القوى الوطنية إلى فرق وفصائل، وتداخلت المفاهيم والرؤى السياسية، واستحال الوضع برمته ضرباً من الفوضى المشاعة، التي من الطبيعي لها أن تنتهي إلى فكي القوى اليسارية المنظمة وذات الإمكانيات المادية التي لا تنضب أبداً.
وقد يخطئ البعض حين يقف بأزمة الوحدة اليمنية عند مستوى الفوضى الثورية، أو الانقسامات الداخلية أو محاور ارتكاز الاستراتيجيات السياسية لنظام الحكم في اليمن، لأن مسألة الوحدة اليمنية في تلك الفترة لم تعد قضية اليمنيين وحدهم لأنها أصبحت جزءاً من لعبة سياسية دولية كبيرة. كانت المملكة العربية السعودية رأس الحربة في ساحة المناورة. ووقف التيار السعودي المتشدد بالمرصاد لأية تجربة وحدوية يمنية، ليسعى إلى وأدها في المهد قبل أن تفرض عليه يوماً على حين غرة. لأن الوحدة بالنسبة للمملكة تعني انبعاث قوة دولة يمنية تملك كل المواصفات التي ترشحها لتصبح القطب الأقوى في الجزيرة العربية، في الوقت الذي تحرص فيه المملكة منذ القدم على أن يكون لها دوراً مؤثراً ومهيمناً على سياسة دول المنطقة من خلال هامش عريض من التدخل بشئون دولها.. وقد ترجمت المملكة هذا المفهوم بكل صراحة ووضوح بعد اتفاقية الكويت في عام 1979م- وسنأتي على تفصيله لاحقاً.
وبعد استشراء العقيدة الماركسية في جنوب اليمن، وتعاظم قوتها، أضافها السعوديون إلى قائمة المحظورات التي تمنع قيام وحدة يمنية شاملة، ووجد التيار المتشدد في السعودية ذلك فرصته الكبرى لممارسة الضغط الأكبر على نظام صنعاء لمنعه من التقارب الوحدوي مع الشطر الجنوبي، وعمد إلى تغذية الصراعات والتحالفات القبلية بوجه الدولة، إلى جانب إشهار ورقة المساعدات الاقتصادية الممنوحة لليمن لمزيد من الضغط والإذلال. وكان من الطبيعي لدولة تحصل على 80% من ميزانيتها الحكومية من المملكة والخليج أن تصبح ضحية مؤامرات على أعلى المستويات.
ثم ما لبث أن تطور أمر الوحدة اليمنية ليصبح رهان قوي دولية عظمى بعد انهيار نظام شاه إيران (محمد رضا بهلوي) الذي كان يلعب دور الشرطي الأمريكي في المنطقة. فازدادت مخاوف الولايات المتحدة على مصالحها النفطية فدخلت ساحة اللعب مع السوفيت عبر بوابة اليمن والسعودية، وبحسب ذلك الأثر تبدلت الكثير من الأرقام السابقة لمسألة الوحدة ، وظهرت قراءات جديدة لمحاور الصراع الدائر.
• ظروف الوحدة
لعب الإرث التاريخي الوحدوي دوراً كبيراً في تثبيت المرجعية الوحدوية اليمنية وترسيخها في خيال اليمنيين كخيار الضرورات الحتمية التي كانت تعود إلى طاولته كل القيادات اليمنية كلما تعرضت لأزمات سياسية. وفي الثمانينات أخذت المبادرات التوحيدية والظروف السياسية تتجمع وتتراكم في اتجاه مسار الوحدة.
ففي الشطر الشمالي شهدت الساحة في عقد الثمانينات تطورات كبيرة آلت إلى تحقيق قدر كبير من الاستقرار، وإعادة ترتيب البيت الداخلي، وإبعاد مراكز النفوذ الخارجية عن التحكم بسياسة البلاد، وانتهاج سياسة خارجية دفاعية.. كذلك سمحت الظروف بتوفير مصادر دخل مهمة لليمن عبر السياسة الحكومية الداعية إلى ترشيد الاعتماد على الاستيراد وتنمية موارد اقتصادية داخلية بديلة، إضافة إلى الاكتشافات النفطية المحدودة ومردودات العمالة اليمنية في الخارج، الأمر الذي ساعد على اكتساب السلطة الفاعلية الإقليمية المنشودة، التي أتاحت للرئيس علي عبد الله صالح هامشاً كبيراً للمناورة، ووفرت للوحدة مظلتها الداخلية والخارجية.
أما الشطر الجنوبي، فإنه عاش خلال النصف الثاني من الثمانينيات انهيارات كبيرة متتالية قصمت ظهر النظام، واضطرته إلى الإذعان لنداءات الوحدة، وتقديم المزيد من التنازلات الداخلية والخارجية. فعلى الصعيد الداخلي كان نظام علي سالم البيض يعاني من انهيار سياسي بعد أحداث 13يناير 1986م التي أودت بمعظم رموزه الاشتراكية البارزة، وتسببت أيضاً بانهيار اقتصادي شديد إثر الخراب والدمار الذي أطاح بالمؤسسات المدنية والعسكرية على حد سواء.
وتظافرت الظروف الداخلية مع تطورات خارجية أخرى ضاعفت البلاء، فقد خرجت عدن من الحضانة السوفيتية مبكراً بعد الحرب الأهلية الدامية، حيث أن موسكو لم تعد مستعدة لتغطية أي عبث سياسي لنظام عدن، وإن المعسكر الاشتراكي في طوره للانهيار، وعلى حد تأكيد الزعيم السوفيتي (غور باتشوف) لنضيره الألماني الشرقي "إريك هونيكر": (لقد انتهى عصر حضانة الأطفال، وكل نظام اشتراكي يتوجب عليه أن يدير شئونه بنفسه).
ومن جهة أخرى فإن نظام (البيض) أصبح مطوقاً بمجلس التعاون العربي على حدوده الشمالية مع صنعاء، وبمجلس التعاون الخليجي على حدوده مع السعودية وسلطنة عمان. إضافة إلى أن نظام الشطر الجنوبي كان مصنفاً ضمن الدول الإرهابية في قياسات الولايات المتحدة الأمريكية.
وكانت علاقات البلدين مقطوعة. ولعل انهيار جدار برلين في (9 نوفمبر 1989م) بمثابة القشة التي قصمت ظهر البعير وقطعت كل رجاء الاشتراكيين اليمنيين في احتمالية تجاوز الأزمات الخانقة.. الأمر الذي يعني أن لا مناص أمام نظام عدن إلا بالقبول بيد الرئيس علي عبد الله صالح التي امتدت إليه تدعوه للوحدة الاندماجية بين الشطرين.
ومع كل هذا وذاك، لم يكن تحقيق الوحدة اليمنية أمراً سهلاً أو "صدفة تاريخية" كما فسرها الانفصاليون لاحقاً، بل جاءت على مسار طويل جداً من التهيئة والإنماء- سبق الحديث عن ذلك- وجاءت أيضاً وليدة مهارة سياسية فائقة من الرئيس علي عبد الله صالح الذي استعد لها تماماً، وصنع ظروفها الإقليمية والدولية التي كان لابد من تحضيرها قبل الإقدام على هذه الخطوة الكبيرة.
فإحساس صنعاء باشتداد المخاطر من جارتها المملكة العربية السعودية ومحاولاتها المستميتة للحيلولة دون قيام الوحدة، ومحاولاتها المتكررة لإغراء قادة الحزب الاشتراكي بالعدول عن مشروع الوحدة، دفع بالرئيس علي عبد الله صالح للتحرك بصورة ديناميكية فاعلة على المستويين الإقليمي والدولي لتهيئة مظلة الوحدة والحيلولة دون نجاح السعودية في إعاقتها.
فقد استفاد الرئيس صالح من واقع التنافس الإقليمي الكبير بين السعودية والعراق ومن واقع انضواء اليمن مع العراق والأردن ومصر في مجلس التعاون العربي ليجعل من العراق أهم نصير له في توفير الضمانات لعدم نجاح المسعى السعودي المضاد لمشروع الوحدة. وبالفعل كانت بغداد واحدة من أهم دعائم الوحدة في هذه الفترة.
وعمل الرئيس صالح في الوقت ذاته على زيارة السعودية وطمأنة الملك فهد بن عبد العزيز حول إيجابية الوحدة ، وأكد له بأنها ستكون مصدر أمن واستقرار للمنطقة كاملة، وقوة مضافة لدول الجزيرة العربية.
كما زار الولايات المتحدة الأمريكية والتقى بالرئيس جورج بوش، ونجح في إقناع إدارة البيت الأبيض بالأهمية الاستراتيجية للوحدة اليمنية، وأنها تمثل المحطة الختامية للوجود الماركسي في جنوب شبة الجزيرة العربية، وأداة اقتلاع الإرهاب من المنطقة، وبذل جهدا متميزا في الوصول إلى شطب اسم جنوب اليمن من قائمة الإرهاب الدولي وقد أتت هذه الزيارة في شهر يناير 1990م أي قبل إعلان الوحدة بثلاثة أشهر فقط- وهو ما يمكن اعتباره بان القيادة اليمنية هيأت الضمانة الأكثر أمنا للوحدة اليمنية.
وفي الحقيقة إن المملكة العربية السعودية لم تكن الطرف الوحيد غير الراغب بالوحدة، فهي إن كانت تتطلع إلى حالة تشطيرية تحافظ على حالة التوتر والصراع التي تضمن لها هيمنة إقليمية قديمة العهد، فإن هناك أطراف يمنية أيضا لم تكن راغبة بالوحدة، وعارضت المشروع بحدة فالتيار الإسلامي الذي كان قد لمع نجمة أوائل الثمانينيات كان يعارض الوحدة من منطلقين الأول عقائدي يصل مستوى" تكفير" الاشتراكيين ويصفهم ب " الملحدين" وهو ما نسميه ب"الخلاف الأيديولوجي" .
أما المنطلق الثاني فيبنيه على أساس اعتراضه على دستور دولة الوحدة، واعتباره دستورا "علمانيا" لانه لا يصرح بعبارة " الشريعة الإسلامية المصدر الوحيد للقوانين" وأنما يجعلها "مصدرا للقوانين" فقط دون ذكر كلمة "وحيد" ، وكذلك يطالب هذا التيار بأسلمة بعض النصوص ولهذا السبب فإن ممثلي الحركة الإسلامية في مجلس الشورى أعلنوا انسحابهم من اجتماع يوم 21 مايو 1990م في صنعاء ولم يرافقوا الرئيس صالح إلى عدن في اليوم التالي يوم إعلان الوحدة.
ومن جهة أخرى، فإن التيار القبلي والطبقة البرجوازية كانوا أيضا من معارضي مشروع الوحدة انطلاقاً من حسابات نفعية مصلحية ضيقة، إذ أنهم كانوا يخشون أن تقوض الوحدة نفوذهم ويخسروا الدعومات الخارجية التي كانت تردهم من حين لآخر بقصد القيام بدور ما يقلق السلطة أو يبعثر أوراقها السياسية – لاسيما منهم مشائخ القبائل.
أما البرجوازية فكانت تخاف على مواردها من التأميم أو أي سياسة مماثلة قد يدفع بها الاشتراكيون إلى الساحة ( الشمالية) .
إذن بات جليا للعيان حجم الدور الذي لعبة الرئيس صالح في الحفاظ على توازن ساحة الوحدة مع كل تلك الرؤى السابقة التي اضطرته إلى استهلاك وقتا طويلا في الالتقاء مع رموز القوى الداخلية ( التيار الإسلامي، التيار القبلي، البرجوازيون) وطمأنتهم على كل ما كان يدور في خلدهم، واقناعهم بمقدار المصالح والفرص التي ستهيئها دولة الوحدة لكل فئة منهم، وتهدئة روع الإسلاميين واقناعهم بأهمية القبول بما هو حاصل من أجل الوحدة، وأن الوقت كفيل بتعديل وتقويم كل ما لم يكن سويا أو صائبا تماما.
وهكذا نجد الرئيس قد ناور بكل الأوراق السياسية التي كانت في جعبته في سبيل ضمان المشروع الوحدوي، فقد استعان بخزين التجارب الشخصية الهائلة، في تعيين أسلوب الحوار والإقناع للقوى الوطنية الداخلية للحيلولة دون اقترافها ما يعكر صفوف المسار الوحدوي ،ثم استفاد من قراءاته السابقة لواقع الساحة الإقليمية فكفل من خلالها دعم وإسناد وحماية القطب الأقوى المتمثل بالعراق- الذي كان يتطلع لقيادة أدوار قومية كبيرة، وهو في أوج قوته، فاتاح له الرئيس صالح تبني مسألة الوحدة اليمنية.
وإلى جانب كل ذلك، انطلق إلى الساحة الدولية الأكبر ليتعامل مع الحدث من واقع الاستراتيجيات الدولية الكبرى، وما كان يدور في رؤوس اللاعبين الأقوياء، فارتقي بمهاراته العالية إلى ميادين اللعبة السياسية الذكية الخاصة بالمحترفين ليقنع الولايات المتحدة الأمريكية بأهمية إسنادها ومباركتها لوحدة اليمن، لافتا أنظار البيت الأبيض إلى طبيعة المكانة الاستراتيجية لليمن، ومدى تأثير كينونتها الموحدة في بناء الأمن والاستقرار الإقليمي والدولي، وما قد يترتب عن ذلك من أهمية تنعكس على مصالح الولايات المتحدة الكبيرة في المنطقة.
إجمالاً يمكن القول – أن الرئيس علي عبد الله صالح كان المهندس الحقيقي للوحدة اليمنية، وعقلها المخطط والمدبر، وأداة بنائها، والمحرك الديناميكي لمسيرتها عبر جميع المرحل التاريخية اليمنية ، ولتلك الأسباب تم انتخابه رئيسا لدولة الوحدة- الجمهورية اليمنية.

• صيغ الحكم ورهان الاشتراكي
فرضت دولة الوحدة واقعاً سياسياً جديداً انتظمت تحت سقفه رؤى متباينة للصيغ السلطوية التي أطرت النموذج السياسي للحكم، فالرئيس علي عبد الله صالح الذي انشغل لفترة غير قصيرة في ترتيب حلقات الوحدة وتهيئة ظروفها، كان يدرك جيداً أن مشروعه محاط بالكثير من المحاذير والتحديات والمجازفة التي تتربص به الدوائر، وتقتنص الثغرات، وتباينات وجهات النظر لتعمل على توسيع هوتها والانقضاض على مشروع دولة الوحدة.
فقد عمل سحب البساط من تحت أرجل القوى المتربصة من خلال حوار النفس الطويل، والنزول عند قدرية بعض الخيارات السياسية التي وافق على القبول بها.. ولكن على مضض.
كان الرئيس صالح يحمل في رأسه تصوراً لوحدة فيدرالية تتوزع فيها مرافق السلطة على أساس يأخذ في الاعتبار الخارطة السكانية لشطري الوطن بما يحقق توازناً طردياً في معطيات التمثيل الجماهيري في مؤسسة الحكم. وكان ينطلق من نظرة براغماتية في بلورة تصوراته للعمل السياسي، إذ كان يحبذ صيغة الحزب الجبهوي الذي يضم مختلف التيارات السياسية داخل إطار تنظيمي واحد- على غرار تجربة المؤتمر الشعبي العام.
لكن الحزب الاشتراكي اليمني رجح أسلوب التقاسم الكامل لجميع مرافق السلطة من خلال وحدة اندماجية كاملة، ومحددة بأسلوب التعددية الحزبية والسياسية، وينظر إلى ذلك على كونه يوفر ضمانات أمنية لمستقبل الحزب، خصوصاً مع ظروف المعارضة القوية التي أبداها الإسلاميون ضد الوحدة ودستورها.
وكاد هذا الخلاف أن يفض المشروع الوحدوي – خصوصاً مع وجود من يغذيه- وتشعبت المفاوضات، وتقدم الشطر الشمالي باقتراح حل وسط بأن تكون وحدة فيدرالية لمدة خمس سنوات ، وفي الوقت نفسه تكون اندماجية في أربع وزارات فقط إحداها وزارة التربية والتعليم.
لكن (البيض) أصر على رأيه وتعنت بشكل كما لو أنه يبحث عن ذريعة يتخلص بها من (مأزق) الوحدة.. ثم بلغت الأمور في شهر أبريل 1990م إلى طريق مسدود.. إلاّ أن الرئيس العراقي صدام حسين تدخل بين الطرفين والتقى بالأمين العام للحزب الاشتراكي علي سالم البيض في بغداد، وتجاذب معه أطراف الحوار ثم اتصل الرئيس صدام حسين بالرئيس علي عبد الله صالح واجتهد في إقناعه في القبول بمبدأ "التقاسم" فعاد البيض من بغداد إلى صنعاء في الوقت الذي وصل فيه قادة الحزب الاشتراكي اليمني إلى صنعاء، وبدأت المفاوضات بين الطرفين والتي انتهت بالتوقيع على اتفاقية الوحدة ، التي نصت على قيام الدولة الجديدة خلال أقل من شهر ونظمت الفترة الانتقالية بمدة عامين ونصف بدلاً مما هو منصوص عليه في مشروع الدستور بستة أشهر- وكذلك تضمنت اتفاقاً غير معلن حول التقاسم لدوائر الحكم.
وعلى هذا الأساس تشكلت صيغة الائتلاف السياسي للحكم من مجلس رئاسي وتم انتخاب الرئيس علي عبد الله صالح رئيساً للدولة الجديدة، وعلي سالم البيض نائباً، وضم المجلس إلى جانبها القاضي عبد الكريم العرشي وعبد العزيز عبد الغني (عن المؤتمر الشعبي العام)، وسالم صالح محمد (عن الحزب الاشتراكي)، وتم تعيين حيدر أبو بكر العطاس (اشتراكي) رئيساً للوزراء، والدكتور ياسين سعيد نعمان (اشتراكي) رئيساً لمجلس النواب، وكذلك جرى تقاسم الوزارات مناصفة، على اساس إذا ما كان الوزير مؤتمرياً يكون نائبه اشتراكياً، والعكس.
وفيما كانت الآمال معقودة على دولة الوحدة، بدت الصيغ السياسية المؤطرة لنظام الحكم شبه عاجزة عن بلورة رؤية استراتيجية لبناء دولة مؤسسات حقيقية تستقيم بها العملية الديمقراطية، فقد ظل هاجس الخوف ملتصقاً بمفردات العمل السياسي للحزب الاشتراكي من قبل الوحدة وحتى فتنة الانفصال وصاحب قيادات الاشتراكي في جميع خياراتهم لصيغ الحكم، فجعلوا رهانهم بالتعددية الحزبية على أساس من خوفهم من الذوبان في إطار التنظيم الموحد الذي كان يحبذه الرئيس علي عبد الله صالح ؛ خاصة مع تداعي الأنظمة الاشتراكية العالمية وانهيارها.
ونظر الاشتراكيون للأمر على كونه النموذج الأمثل الذي يستطيع احتواء الساحة الشمالية وابتلاع تنظيم المؤتمر الشعبي العام الذي لا يستند إلى قاعدة حزبية وتنظيمية مرصوصة الصفوف أو أيديولوجية عصرية، وكوادر مدربة- على غرار ما لديهم.
وينقل الباحث ما يكل س. هدسون على لسان حيدر أبو بكر العطاس تأكيداً لذلك الرأي: (هناك مشكلات كبيرة تواجهنا: التخلف ، والطائفية ، والاختلافات الاجتماعية والاقتصادية ، والتطرف الديني.. وأن معالجة هذه المشكلات تتم بامتداد نظام الجنوب إلى فوضى الشمال).
ويستنتج هدسون من قراءاته للساحة اليمنية بأن: "الحزب الاشتراكي والزعماء الجنوبيين أقبلوا على الوحدة بتردد، فقد كانوا يطمحون إلى قيادة اليمن كله في النهاية، وربما فكروا أنهم في أسوء الأحوال يستطيعون أن يتخلصوا من تجربة الوحدة ويسيطروا مجدداً على يمن جنوبي مستقل)( ).
ويبدو واضحا أن الرئيس صالح أدرك تلك الحقيقة من قبل إعلان الوحدة اليمنية، ووضع في حسبانه العمل وفقا لضوابط اتفاقيات الوحدة ومحاولة ضبط الاشتراكيين على أساسها، والتصدي بقوة لأي فعل قد يتخطى الحدود المرسومة للعبة السياسية. وكان واثقا بأنه قادر على الحفاظ على خيوط اللعبة بيديه والمناورة على هامش أكبر بكثير مما بحوزة الاشتراكي، وفي مقدمة ذلك معادلة الأكثرية والأقلية( ) ، وتعدد روابطه مع الجنوبيين، وخبرته السياسية الأطول.
وهكذا أفرزت الحالة الوحدوية إمكانية فشل خيار الاندماجية الفورية على قواعد نظرية العمل الثوري في الأيديولوجية الاشتراكية، والتي لا تعطي أي خصوصية للواقع اليمني وظرفه الاستثنائي وضرورات التدرج المرحلي والتحول عبر تراكمات الإصلاحات القاعدية، وهي الطريقة التي تأكدت نجاحاتها طوال الفترة السابقة للوحدة من عهد الرئيس صالح.
أضف إلى ذلك، إن مبدأ "تقاسم السلطات" كان ذو شقين سلبيين، فهو من جهة لا يحقق العدالة الديمقراطية بتجاوزه لاعتبارات التوزيع الجغرافي للقوى البشرية، ومن جهة أخرى فإنه سبباً أساسياً في تعدد أوجه القرار السياسي، وتشتيت المسئوليات الوطنية وتداخل اختصاصاتها بالقدر الذي لا يمكن فرز أية حقائق واضحة على ضوئه.
[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.