نتحدث دائماً عن المجتمع المدني بوصفه ممثلاً للقوى الشعبية المختلفة، وناطقاً بلسانها ومدافعاً عن حقوقها ونفترض فيه أن يمثل رديفاً لأجهزة الدولة الرسمية، غير أن واقع الحال اليمني مازال الأبعد عن توصيفاتنا وفرضياتنا إن لم نقل ان المجتمع المدني في كثير من تجاربه بات كياناً غريباً ومسلوخاً عن الحاجة المجتمعية. لقد أفرزت تجارب الأعوام السابقة من عمر الديمقراطية اليمنية هوية مختلفة للغالبية العظمى من المنظمات والجمعيات والاتحادات وبقية المؤسسات المدنية، إذ أنها أمست ذات هوية سياسية حزبية تتحرك في دائرة الموقف المناوىء للدولة كما لو ان البعض يفهم ان عمل المجتمع المدني لا يصح بالتوافق مع الموقف الرسمي للسلطة. إن هذا الاستيعاب المغلوط لوظيفة المجتمع المدني نشأ على خلفية اعتماد كياناته المؤسسية في انشطتها على التمويلات الدولية، والحكومية، والحزبية، دونما التفكير في التحرر من قيد الولاءات التي تمليها ثقافة منح الدعومات السائدة في المجتمع والتي تشترط تحقيق أهداف ورغبات المانحين وفي المقدمة المانحون الدوليون الذين يشترطون إدخال الكثير من التعديلات على البرامج المقدمة لهم من قبل المنظمات لتتم الموافقة عليها واعتمادها، خلافاً لما يشاع من ترويج بأن المانحين الدوليين يعملون على تحرير المنظمات من اشتراطات الدولة وتأثيرها، لأن ذلك قد يكون صحيحاً لكنه في النهاية يصبح هروباً من التأثير «الوطني» إلى التأثير «الأجنبي». في الفترة الأخيرة ومع اشتداد حدة الصراع الحزبي في اليمن تكاثرت المنظمات والتكوينات المدنية أو التي تمنح نفسها تلك الصفة على نحو مثير للدهشة، إذ جميعها تتحدث عن حقوق سياسية وديمقراطية دون التعريج على الحقوق الاجتماعية والثقافية وغيرها.. وكان الاكثر إثارة للدهشة هو تركز هذه التكوينات في العاصمة بدرجة أولى، ثم تليها مراكز المحافظات بدرجة أقل بكثير جداً، في الوقت الذي يترك المجتمع الأوسع الذي هو بحاجة إلى مساعدة حقيقية، والممتد على مساحات شاسعة من الأرياف والعزل اليمنية. فما هو ماثل للعيان ان تكوينات المجتمع المدني - وإن كانت تمنح نفسها صفات حقوقية وإنسانية - ظلت تهرب من الواجبات التنموية المرتبطة بمكافحة الجهل والأمية والفقر، والمواريث المتخلفة، رغم انها تحتل الأولويات في كل دراسات الديمقراطية التي تعدها قاعدة الأساس لنهوض وتقدم الحياة الديمقراطية. يبدو جلياً ان مفهوم المجتمع المدني أصبح رديفاً للصناعة الحزبية، وبات يترجم خطاب وتطلعات الأحزاب أكثر من تمثله للشارع اليمني أو الفئات الاجتماعية التي يدعي العمل تحت مظلتها.. كما باتت غالبية المنظمات والاتحادات والجمعيات عبارة عن أوراق سياسية وليس أدوات تنموية، وهو أمر في غاية الخطورة لانه يفرغ العملية الديمقراطية من أهم مرتكزاتها، ورهاناتها في تنمية الحياة الإنسانية، وما لم يعد النظر في ضوابط إقامة هذه التكوينات وآليات الرقابة عليها فإنها بالتأكيد ستتحول إلى معاول هدم الديمقراطية وإفساد غاياتها الإنسانية.