يعتبر مفهوم المجتمع المدني مفهوما حديثا، ظهر مع نشوء الدولة القومية في أوروبا ونمو الرأسمالية الحديثة. ارتبط مفهوم المجتمع المدني في البداية بالمجتمع البورجوازي، كما تجلى عند هيجل ثم ماركس "علاقات الإنتاج المادية". ثم برزت فكرة الاندماج والتّنشئة الاجتماعيّة عند دوركايم. أما ألكسيس دي توكفيل فقد ربط فكرة المجتمع المدني بمسألة "المراقبة والتّعديل"؛ في حين أضاف انطونيو غرامشي للمفهوم الماركسي للمجتمع المدني بأن اعتبر المنظمات النقابية والأحزاب والجمعيات والصحافة جزءا لا يتجزأ من تكوينات هذا المجتمع.. واكتسب هذا المفهوم مدلولات جديدة مع التحولات التي عرفها النظام العالمي واتخذ بعدا أيديولوجيا خاصة بعد ارتباطه بالحركات السياسية والاجتماعية التي عرفتها بلدان أوروبا الشرقية خلال عقد الثمانينات.. واتسع مع انتشار العولمة الاقتصادية وثورة الاتصالات والمعلوماتية؛ ومنذ التسعينات من القرن الماضي أصبح مفهوم المجتمع المدني من أكثر المفاهيم تداولا وإثارة للجدل خاصة في عالم الجنوب.. ولا شك أنّ عملية بناء المجتمع المدني تتطلب شروطاً ومواصفات ثقافية واجتماعية وسياسية عديدة منها التعددية وقبول الآخر والتسامح واختلاف الرأي وحق المعارضة السلمية والحريات العامة وحرية إنشاء الجمعيات والمنظمات والعمل التطوعي.. أما في المجال العربي فتتواتر في الساحة الفكرية عدة معان ودلالات لمفهوم المجتمع المدني، إذ يعتبر البعض أن المجتمع المدني يتكون من المنظمات والجمعيات والمؤسسات والهيئات التي تعمل في إطار النشاط التطوّعي خارج أطر الدولة والعائلة وخارج علاقات السوق الرأسمالي، في حين يستثني البعض الأحزاب السياسية "وأحيانا النقابات" من تشكيل المجتمع المدني باعتبار أنها تعمل من أجل الوصول إلى السلطة. كما يُدمج فريق آخر المجموعات التي تستند إلى أساس الدين أو الطائفة أو الانتماء الإثني "الولاءات التحتية" كجزء من المجتمع المدني، باعتبار دفاعها عن منتسبيها والسعي إلى التغيير والدفاع عن حقوق فئات اجتماعية واسعة وتطلعاتها، فيخلط البعض بين طبيعة النشاط الذي تقوم به مؤسسات المجتمع المدني ومنظماته، وبين شروط قيامها واستمرارها. وبرغم عراقة مفهوم المجتمع المدني في الغرب وتنوع تجاربه غير أن الاختلاف ما يزال قائما بين علماء السياسة والاجتماع حول طبيعة الدور السياسي والاقتصادي والإنساني والحقوقي الذي تقوم به تلك المنظمات. أما في عالم الجنوب، والعالم العربي منه تحديدا، فيبدو الأمر أكثر تعقيدا وتشابكا نتيجة لحداثة المفهوم كما التجربة في حدّ ذاتها من ناحية، ونتيجة لطبيعة المجتمع ومدى قابليته لتلك المنظمات من ناحية أخرى، ولطبيعة السلطة السياسية السائدة ونظرتها لتلك المنظمات وموقفها من السلطة "مواجهة السلطة أو المساهمة في تغييرها"؛ لذلك تبدو مهام تلك المنظمات دقيقة وحسّاسة، فهي تمارس نشاطها في أرض مزروعة بكثير من الألغام، كما يقول بعض الناشطين في تلك المنظمات.. وتبدو علاقة منظمات المجتمع المدني بالسلطات الحاكمة العربية متوترة في الغالب، إذ تسعى تلك السلطات للسيطرة على توجهاتها. كما تحاول بعض الحكومات تكوين منظمات موازية لتلك الموجودة أصلا. وبشكل عام تواجه منظمات المجتمع المدني مشاكل عديدة معقّدة ذات طبيعة ذاتية بنيوية وأخرى موضوعية، مما حدا بالبعض إى القول بأن تلك المنظمات تعيش في حالة غيبوبة. فما هي أبرز تلك العراقيل التي تواجه تلك المنظمات وتعرقل نشاطها؟ تواجه منظمات المجتمع المدني العربي عامة مجموعة من الصعوبات والعراقيل يمكن تصنيفها إلى موضوعية وأخرى ذاتية. إذ تحاول أغلب السلطات العربية تدجين تلك المنظمات وتهميشها توجيهها، وقد تلجأ تلك السلطات أحيانا إلى فرض قيود مالية على تلك المنظمات أو عرقلة وصول الدعم المالي الخارجي أو الهبات المالية المُرسلة إليها من جهات صديقة أو من منظمات رديفة، كما يمكن لأجهزة السلطة الحدّ من الوسائل الذاتية التي قد تساعدها على الوصول إلى الاستقلال المادي وذلك من خلال ممارسة رقابة مالية متواصلة.. كما تثير علاقة منظمات المجتمع المدني بالجهات المانحة الكثير من الأسئلة والانتقادات ليس من قبل الأنظمة المناهضة لمنظمات المجتمع المدني فحسب بل حتى من قبل بعض المستقلين أو العاملين في صلب تلك المنظمات، وتبدو هذه العلاقة "مريبة" في أحيان كثيرة إذ تخضع لبعض شروط ومصالح الجهات المانحة؛ لذلك يَنزع الكثير من الباحثين والفاعلين عن هذه العلاقة "براءتها" المفترضة ويعتبرونها مسّا من سيادة الدولة وهو ما يضع منظمات المجتمع المدني في نوع من الإحراج، كما تَستغل بعض السلطات الحاكمة العربية التنافس الذي تعرفه بعض منظمات المجتمع المدني فيما بينها وتوظف هذا الطرف أو ذاك للتشهير بالمنظمات غير المطيعة للدولة. كما تبدو علاقة منظمات المجتمع العربية مع دول الاتحاد الأوروبي ودول أمريكا الشمالية متناقضة ومرتبكة، إذ تخضع بعض منظمات المجتمع المدني إلى محاولات توجيه مواقفها وطبيعة أنشطتها بما يخدم مصالح بعض الأطراف الدولية والإقليمية الرسمية وغير الرسمية وخدمة أغراضها السياسية ومشاريعها وبرامجها باعتبارها المُمَوّلة الرئيسية لمشاريع تلك المنظمات.. كما تؤثر العلاقات الرسمية بين الدول الأجنبية والدول العربية في طبيعة علاقة منظمات المجتمع المدني والدول الغربية، ففي الوقت الذي تدعو تلك الدول أو بعضها منظمات المجتمع المدني إلى تطوير نشاطها الإنساني في مجالات ذات علاقة بحقوق الإنسان وتقدم لها الدعم المادي وحتى الإعلامي فهي "أي الدول الغربية" لا تتردد في تقديم كل أشكال الدعم والتأييد للأنظمة العربية التي تعرقل، موضوعيا، نشاط منظمات المجتمع المدني وتضع شتى أنواع العراقيل أمام تطورها.. فإلى أي مدى يمكن لهذه المنظمات التمتع بالاستقلالية في صياغة برنامجها وقدراتها المالية ونوعية تحركاتها وأنشطتها؟ تُتَّهم منظمات المجتمع المدني من قبل بعض الأحزاب والمنظمات السياسية بأنها ساهمت في تجفيف "المنابع الاجتماعية" لتلك الأحزاب التي تُرجع سبب التقلص في حجمها وانتشارها إلى منظمات المجتمع المدني التي تتهمها باستقطاب أنصارها ومناضليها، خاصة وأن تلك المنظمات تعمل بمرونة أكثر في التحرك والتفكير وتتمتع بمناخات أفضل للنشاط وضمانات أكثر للعطاء بالإضافة إلى ما تتمتع به من إمكانيات مالية تبدو أوسع من إمكانيات الأحزاب السياسية.. كما تبدو تنظيمات المجتمع المدني في الفضاء العربي عاجزة عن القيام بدور الوسيط "تقديم المطالب أو الضغط المعنوي أو التأثير في القرار.." بين المجتمع والدولة كما هو الشأن بالنسبة إلى المجتمع المدني في الدول الغربية.. وتتمثل الصعوبات التي تتعرض إليها منظمات المجتمع المدني العربي في الاستعصاءات البنيوية الموضوعية ذات العلاقة بمستوى التطور الثقافي والسياسي والاجتماعي في البلدان العربية الذي يبدو، رغم تفاوته من قطر إلى آخر، متدنيا بشكل عام لا يمنح الفرصة "للمواطن" العربي بامتلاك وعي سياسي واجتماعي وحقوقي متقدم يسمح له بمعرفة حقوقه ومصالحه وممارسة حرياته، وبالتالي فرصة النشاط في تلك الجمعيات من ناحية، كما أنّ الضغوط الاقتصادية والاجتماعية اليومية المتنوعة التي يتعرض إليها المواطن العربي تساهم إلى حد بعيد في عدم اهتمامه بتلك المنظمات أو حتى النشاط في أطرها. كما تبدو طبيعة البنية الاجتماعية والثقافية "البنى القبلية والعشائرية والعائلية والجهوية أو المناطقية والطائفية" عاملا أساسيا في تحديد طبيعة تلك المنظمات وتحديد توجهاتها واختياراتها في الكثير من الأحيان وعرقلة نشاطها ونموها الطبيعي. والأخطر من كل ذلك أن الكثير من منظمات المجتمع المدني تتعامل مع هذا الواقع من خلال تكريس الولاءات الفردية وتشريعه، بوعي أو دون وعي، بل قد يستنجد بعضها بهذا الواقع عند الضرورة وهو ما يساهم بالتالي في تكريس التفكك الاجتماعي وعرقلة انتقال المجتمع إلى المرحلة المدنية: مجتمع المواطنة والقانون والمؤسسات والحداثة. وقد بينت تجارب بعض المنظمات وجود بعض الانحرافات في سلوك مسيّريها الذين يستغلون مواقعهم ولا يترددون في توظيف مواقعهم لتحقيق مكاسب وغايات ومصالح مادية ومالية وسياسية شخصية، لذلك لا تتردد بعض الجهات الرسمية أو غير الرسمية من داخل الأنظمة الحاكمة أو من داخل منظمات المجتمع المدني العربي نفسها باتهام مسؤولي بعض تلك المنظمات وبعض أعضائها بالارتزاق وبالفساد المالي وب"التمعّش" على حساب المصلحة العامة والمبادئ السامية التي من المفروض أن تعمل تلك المنظمات من أجل تحقيقها.. ومهما كان الأمر تبدو تجربة منظمات المجتمع المدني في المجال العربي حديثة النشأة وهي في الغالب ذات طبيعة هشة، أما نشاطها فيبدو بدوره نخبويا محدودا ويواجه الكثير من العراقيل والإكراهات الذاتية والموضوعية، ولا شك أنّ نضال تلك المنظمات ومساهمتها في إحلال مناخات الحرية وإقرار النظم الديمقراطية وتكريس دولة القانون والمؤسسات هو السبيل الوحيد لتطور تلك المنظمات والتخلص من العوائق الذاتية والموضوعية التي تعرقل وظيفتها الاجتماعية والتنموية والحقوقية..