مع انطلاقة الديمقراطية في اليمن كان قلق صناع القرار يكمن في مدى القدرة على تنمية مجتمع مدني يترجم روح التجربة اليمنية، ويحمل الديمقراطية على أكتافه.. لكن بعد 18 عاماً من ذلك أصبح المجتمع المدني هو الخطر الاكبر الذي يهدد الديمقراطية.. عندما يقال ان في بلد قوام شعبه 22 مليون نسمة أكثر من خمسة آلاف منظمة وجمعية، فإن الإحباط يتملكنا، وينتابنا الشك في مدى قدرة دول الديمقراطيات الراسخة على مساعدة دول الديمقراطيات الناشئة في تنمية تجاربها، لأن تلك الدول هي مصدر التشجيع الأول في ولادة المزيد من الكيانات المدنية ، وهي من يضفي عليها المشروعية، وهي التي تقيم الدنيا ولا تقعدها إذا ما اقدمت الحكومات على تشديد الرقابة والضوابط المؤسسية لعمل المجتمع المدني. في العامين الاخيرين تبنت الدول المانحة لليمن توجهاً خطيراً جداً بتعاملها في الكيانات المدنية دونما اكتراث لمشروعيتها القانونية، رغم ان الولاياتالمتحدة وأوروبا لا تسمح داخل بلدانها بممارسة أي عمل مدني دونما أخذ الترخيص القانوني.. إلا أنها في اليمن قدمت الدعم والرعاية لكيانات مدنية ترفض الحصول على الترخيص الرسمي. مثلما هو حال هذه الدول مع تقديم الدعم السياسي والمعنوي لمسيرات ومظاهرات ترفض الحصول على ترخيص مسبق أسوة بالنظام المعمول به في الولاياتالمتحدة وأوروبا. وهنا سنقف أمام ثلاث أفكار مهمة ينبغي على السلطة أخذها بالاعتبار : الفكرة الأولى هي أن هذا اللون من التعامل الدولي مع المجتمع المدني اليمني يؤكد ان هناك تشجيعاً خارجياً لجر الساحة اليمنية إلى «الفوضى الخلاقة» من خلال تفريغ التجربة الديمقراطية اليمنية من حمايتها القانونية.. وهذا المؤشر يتفق مع النهج المألوف لدى الدول الكبرى عندما تتطلع إلى إعادة رسم خرائط بعض الاقاليم بطريقة «التفكيك وإعادة التركيب» ! الفكرة الثانية هي أن الدولة فرطت بحقوقها الدستورية وصلاحياتها التنفيذية في فرض النظام والقانون وهي الحالة التي كانت تحدث على خلفية تسويات العمل الحزبي تارة،وتارة أخرى مراعاة لمشورات ومشاعر الدول المانحة والمنظمات الدولية.. وأحياناً في ضوء اجتهادات خاطئة يراد بها تفادي ردود الفعل الإعلامية، وهو ما شجع على استشراء ظاهرة التكوينات المدنية غير المرخصة، أو المتمردة على ضوابط العمل، واختصاصاتها، واللوائح الأخرى. أما الفكرة الثالثة فهي تكمن في الإجابة على السؤال : لماذا يشترط المانحون ان تكون المنظمات «غير حكومية» أي لا تأخذ تمويلاتها من الحكومة أو مرتبطة بسياساتها !؟ والجواب دائماً هو: لتكون «محايدة».. إذن هل ارتباط المنظمات اليمنية بالحكومة الأمريكية مثلاً سيجعلها «غير محايدة» مع أمريكا ومنحازة لها !؟ فهذه المسألة في غاية الخطورة إذا ما تأملناها جيداً، لأنها تقوم على أساس نقل الولاء أو التبعية من حالتها الوطنية اليمنية إلى حالتها الدولية، وبالتالي فإن التمويل السخي الذي تقدمه الولاياتالمتحدة للمنظمات هو بمثابة شراء لولاءات النخب الناشطة في المجتمع، وبمثابة «تجريم أو تخوين» مسبق للعلاقة في الحكومة الوطنية.. ليكون في النهاية بمثابة تحالف داخلي وخارجي ضد النظام بما يجعله ضعيفاً، وخاضعاً لضغوط تخدم مصالح الخارج قبل الداخل. وبحكم الاتساع الأفقي الكبير لقاعدة المجتمع المدني خلال العامين الماضيين تراجعت مواقف وخطاب الساحة الشعبية الذي يحمل قيماً تنموية حقيقية للمجتمع، أو مواقف صلبة إزاء القضايا المتصلة بالثوابت الوطنية، وحتى المواقف القومية والإسلامية التي تماهت إلى مظاهر شكلية. لكن الدولة تتحمل أيضاً المسؤولية لأنها كان يفترض بها مواجهة الجهد الدولي بجهد وطني نوعي، إلا أن المتأمل في ساحة المجتمع المدني سيكتشف ان الحزب الحاكم ليس لديه فيه سوى قائمة أسماء منظمات لا نشاط لها يذكر، ورؤسائها ليسوا سوى الأسوأ بين أقرانهم من الشباب اليافعين او مشاهير النخب الانتهازية وهذا معناه أننا أمام خطر يتعاظم، وداء يتفاقم، ولو أرادت الدولة حلولاً لقدمناها لها بطبق من ذهب ..