بعد فشل إطلاقه.. صاروخ حوثي يسقط بالقرب من مناطق سكنية في إب    "مسام" ينتزع أكثر من 1800 لغم حوثي خلال أسبوع    وسائل اعلام اسرائيلية: هجوم اسرائيلي أمريكي شاركت فيه عشرات المقاتلات ضد اهداف في اليمن    وقفة نسائية في حجة بذكرى الصرخة    ثلاثة مكاسب حققها الانتقالي للجنوب    شركة النفط توضح حول تفعيل خطة الطوارئ وطريقة توزيع البنزين    عشرات الغارات استهدفت ثلاث محافظات    برعاية من الشيخ راجح باكريت .. مهرجان حات السنوي للمحالبة ينطلق في نسخته السادسة    رسالة من الظلام إلى رئيس الوزراء الجديد    الافراج عن موظفة في المعهد الديمقراطي الأمريكي    الثقافة توقع اتفاقية تنفيذ مشروع ترميم مباني أثرية ومعالم تاريخية بصنعاء    تواصل اللقاءات القبلية لإعلان النفير العام لمواجهة العدوان الامريكي    سوريا .. انفجار الوضع في السويداء بعد دخول اتفاق تهدئة حيز التنفيذ    من أسبرطة إلى صنعاء: درس لم نتعلمه بعد    وزير الصحة يدشن حملات الرش والتوعية لمكافحة حمى الضنك في عدن    الخليفي والمنتصر يباركان للفريق الكروي الأول تحقيق كأس 4 مايو    بمتابعة من الزبيدي.. إضافة 120 ميجا لمحطة الطاقة الشمسية بعدن    الرهوي يناقش مع الوزير المحاقري إنشاء منصة للأسر المنتجة    الزعوري يبحث مع الأمم المتحدة تعزيز حماية وتمكين المرأة في اليمن    الكثيري يبحث مع فريدريش إيبرت فتح آفاق دعم دولي للجنوب    وزارة الشباب والرياضة تكرم موظفي الديوان العام ومكتب عدن بمناسبة عيد العمال    إلى رئيس الوزراء الجديد    عطوان ..لماذا سيدخل الصّاروخ اليمني التّاريخ من أوسعِ أبوابه    مليون لكل لاعب.. مكافأة "خيالية" للأهلي السعودي بعد الفوز بأبطال آسيا    أرواحهم في رقبة رشاد العليمي.. وفاة رجل وزوجته في سيارتهما اختناقا هربا من الحر    الأرصاد تتوقع أمطاراً رعدية بالمناطق الساحلية والجبلية وطقساً حاراً بالمناطق الصحراوية    تفاصيل جديدة لمقتل شاب دافع عن أرضه بالحسوة برصاص من داخل مسجد    بيع شهادات في جامعة عدن: الفاسد يُكافأ بمنصب رفيع (وثيقة)    من أين تأتي قوة الحوثيين؟    رسميًا.. بايرن ميونخ بطلًا للبوندسليجا    تشيلسي يضرب ليفربول ويتمسك بأمل الأبطال    تدشين برنامج ترسيخ قيم النزاهة لطلاب الدورات الصيفية بمديرية الوحدة بأمانة العاصمة    بدء تنفيذ قرار فرض حظر على الملاحة الجوية لمطارات الكيان    نائب رئيس مجلس القيادة الرئاسي الدكتور عبدالله العليمي يعزي في استشهاد عمر عبده فرحان    وسائل إعلام غربية: صدمة في إسرائيل..الصاروخ اليمني يحرق مطار بن غوريون    يادوب مرت علي 24 ساعة"... لكن بلا كهرباء!    وزير الصحة ومنظمات دولية يتفقدون مستشفى إسناد للطب النفسي    قدسية نصوص الشريعة    صرخةُ البراءة.. المسار والمسير    فيما مصير علي عشال ما يزال مجهولا .. مجهولون يختطفون عمه من وسط عدن    الاجتماع ال 19 للجمعية العامة يستعرض انجازات العام 2024م ومسيرة العطاء والتطور النوعي للشركة: «يمن موبايل» تحافظ على مركزها المالي وتوزع أعلى الارباح على المساهمين بنسبة 40 بالمائة    متى نعثر على وطن لا نحلم بمغادرته؟    ملفات على طاولة بن بريك.. "الاقتصاد والخدمات واستعادة الدولة" هل يخترق جدار الأزمات؟    المصلحة الحقيقية    أول النصر صرخة    أمريكا بين صناعة الأساطير في هوليود وواقع الهشاشة    مرض الفشل الكلوي (3)    التحذير من شراء الأراضي الواقعة ضمن حمى المواقع الأثرية    وسط إغلاق شامل للمحطات.. الحوثيون يفرضون تقنينًا جديدًا للوقود    إلى متى سيظل العبر طريق الموت ؟!!    قيادي حوثي يفتتح صيدلية خاصة داخل حرم مستشفى العدين بإب    ريال مدريد يحقق فوزًا ثمينًا على سيلتا فيغو    أطباء تعز يسرقون "كُعال" مرضاهم (وثيقة)    الأهلي السعودي يتوج بطلاً لكأس النخبة الآسيوية الأولى    المعهد الثقافي الفرنسي في القاهرة حاضنة للإبداع    مقاومة الحوثي انتصار للحق و الحرية    مقاومة الحوثي انتصار للحق و الحرية    القاعدة الأساسية للأكل الصحي    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الديمقراطية اليمنية.. إشكالية الحماية ومسئولية الفوضى
نشر في نبأ نيوز يوم 31 - 01 - 2009

لم يبحث العالم عن الديمقراطية إلاّ بعد أن أنهكته قرون الظلم والاستعباد، والتهمت الحروب والصراعات السياسية كل مقومات حياته الإنسانية.. فكان البحث عن الأمن والسلام والاستقرار الطويل الأمد هو السبيل الذي أفضى بالعالم إلى تشخيص الداء الكامن في السلطات المستبدة، أو الطائشة، أو الجاهلة، أو التابعة التي لطالما كانت سبباً رئيسياً لكل ما تعانيه الشعوب.. وهو الداء الذي كفلت الثورات الشعبية استئصاله، والشروع بوضع ضوابط محددة لتداول السلطة، تطورت بمرور الوقت، وبتنامي التجارب، حتى تبلورت في الصيغة الحالية لما نعرفه اليوم بالديمقراطية.
ومن هنا لم تكن مطالب الشعوب بالديمقراطية هي منتهى الغاية الوطنية، والهدف النضالي، بقدر ما كان الهدف الأساسي هو إصلاح مؤسسة الحكم، من خلال ممارسة الحقوق التي أقرتها.. أي أنها ليست أكثر من ثقافة سلوكية يمارسها الأفراد لفرض خيارات الأغلبية الباحثة عن الأمن والسلام، والحياة الكريمة..
وما دامت الديمقراطية هي السبيل إلى كل ذلك، إذن لماذا تعثرت التجربة اليمنية في تحقيقه أيضاً؟ ولماذا أفضت إلى مظاهر عنف، وفوضى، وانتهاكات، ومشاريع سياسية انفصالية، ودعوات لتدخل خارجي بالشؤون الداخلية، وثقافة كراهية..؟ ولماذا انزلق الاستحقاق الانتخابي إلى أزمة مقاطعة حزبية؟ وما جدوى أن تتمسك اليمن بالديمقراطية بعد أن فقدت وظيفتها الأساسية في صنع الأمن والسلام والتنمية، بل أوجدت قلقاً على السيادة الوطنية!؟ أم أن كل ذلك هو مخاض طبيعي على طريق النضوج!؟
• مفترق الديمقراطية والقانون
طبقاً لمعطيات تاريخية كثيرة، فإن التحول الديمقراطي اليمني كان قرين رهان اليمنيين- في الشطرين- على استعادة وحدتهم، وبالتالي كان النهج الديمقراطي هو الصيغة السياسية التي توافقت عليها قيادتا الشطرين لحكم دولة اليمن الموحد (الجمهورية اليمنية)، رغم التحفظات الكثيرة التي أثارتها القوى السياسية الوطنية المختلفة.. ولم يكن مصدر تلك التحفظات هو القلق من انضباطية، وخبرة الحزب الاشتراكي في العمل السياسي المنظم التي قد ترجح كفته في أول تجربة انتخابية- كما اعتاد البعض تفسير الأمور بذلك النحو، رغم أننا لا نقلل من أهمية ذلك- لكن كان هناك ثمة قلق من أمرين.
الأمر الأول: هو الاعتقاد بأن الوعي الشعبي ما زال متدنياً، ومثقلاً بكثير من المواريث المتخلفة. كما أن النسبة الأعظم من الشعب اليمني- الموجودة في ساحة الشطر الشمالي- لم يمض على ممارستها العمل السياسي سوى ثماني سنوات، أي منذ تأسيس المؤتمر الشعبي العام في أغسطس 1982، نظراً لتحريم الدستور للعمل الحزبي، وهي مدة غير كافية لتراكم الخبرات التي تؤهل القوى الوطنية المختلفة لممارسة الديمقراطية.. حيث أن الرئيس علي عبد الله صالح عندما طرحت لجنة العمل السياسي للمؤتمر الشعبي العام الأول 1982م موضوع الديمقراطية قال: (لا ينبغي حرق المراحل)، وأنه لا بد من تكوين كوادر، وتراكم تجارب أولاً..!
الأمر الثاني: هو أن اليمن في تلك الفترة لم تكن دولة مؤسسات، وستحتاج إلى وقت طويل لبناء مؤسساتها الدستورية والقانونية، وتصل بها إلى القوة التي تمكنها من حماية الديمقراطية، إذ أن الديمقراطية إن لم يوفر لها القانون الحماية اللازمة ستتحول إلى فوضى- وهو ذات المعنى الذي كان يحمله شعار المؤتمر الشعبي العام القائل: ((لا حرية بلا ديمقراطية، ولا ديمقراطية بلا حماية، ولا حماية بدون سيادة القانون))! وهو بلا شك شعار بليغ جداً، ويحمل نظرة ثاقبة لمقتضيات العمل الديمقراطي، غير أنه لم يترجم إلى الواقع!!
ولما كان موضوع الوحدة اليمنية ملحاً، ولا يحتمل أي تأخير، فإن الجميع هوّن من موضوع خبرة العمل السياسي وأوكلها للزمن القادم، فيما تبلور رأي حول الإشكالية القانونية يذهب إلى الاعتقاد بأن صمام الأمان الذي سيكفل عدم خروج ممارسات الديمقراطية عن حدودها الآمنة هي أخلاقيات المجتمع اليمني "المحافظ"، وأعرافه القبلية والاجتماعية، وقيمه الدينية.. وهذه فيها الردع المناسب للحيلولة دون انفلات السلوك الديمقراطي لمختلف الأفراد والقوى الوطنية... ومن هذه الأرضية الثقافية السياسية كان دخول اليمن إلى الديمقراطية- ولا يعنينا هنا أي حسابات سياسية أخرى قد تشتت الموضوع..!
• ديمقراطية بلا حماية
المفاجأة التي حدثت هي التي لم تكن قد حسبتها اليمن، فالاجتياح العراقي للكويت بعد ثلاثة أشهر فقط من إعلان الوحدة اليمنية، وما ترتب عنه من تبعات وعقوبات دولية على خلفية الموقف اليمني الرسمي، ما لبث أن عكس نفسه على الساحة السياسية اليمنية، وحرم التجربة الديمقراطية الوليدة من رعاية دول الديمقراطيات الراسخة، فيما شجع أطراف إقليمية أخرى على محاولة الزج بالديمقراطية نحو التأزيم.. كما انعكس على مستوى انسجام العلاقات البينية للقوى السياسية الوطنية، ودفع بالجميع إلى ممارسات خارج الأطر الديمقراطية، وسباق استقطابات حزبية، ما أن خاضت تجربتها الانتخابية الأولى حتى انفجرت بحرب شطرية 1994م عطلت أي طموحات لبناء المؤسسات الدستورية الكفيلة بتوفير الحماية للديمقراطية.
أما التطور الأخر- الأهم- هو أن اليمن في مرحلة ما بعد منتصف التسعينات شهدت انفتاحاً سريعاً، ومذهلاً، كونه فاق كل التوقعات، وأخذت ثورة المعلومات وتقنيات الاتصال تجتاح البلاد بصورة خيالية- وهي المرة الأولى التي يجد فيها اليمنيون أنفسهم وجهاً لوجه مع العالم الخارجي عبر الفضائيات، الأمر الذي سرعان ما عكس تأثيره على ثقافة المجتمع، وقيمه الأخلاقية، والموقف من كثير من الأعراف والتقاليد والنظم السائدة.
ولم تكن الفضائيات وتكنولوجيا الاتصال هي وحدها المؤثرة، بل أن منظمات مدنية دولية بدأت تغزو اليمن، وتعقد الندوات، وحلقات النقاش، وورشات العمل، وتتجول في أرجاء البلاد، وتنشر أفكارها تحت مظلة تنمية الديمقراطية اليمنية، في نفس الوقت الذي بدأت بلدان عديدة- في مقدمتها الولايات المتحدة- بتقديم الدعم التمويلي والمعنوي لإنشاء منظمات مجتمع مدني يمنية تتبنى مسائل حقوقية مختلفة، كان بعضها يتضمن جرعات انفتاحية زائدة عن الحدود الآمنة . أضف إلى ذلك حريات الصحافة التي فجرت ثورة إعلامية، ومثلت وسيطاً لترويج الأفكار السياسية الحداثية والمشاريع الديمقراطية، وكسرت حاجز القلق والخوف من البوح بكثير من الآراء "المتحررة"..
وكل ذلك حدث بسرعة مذهلة، وفي غضون بضعة أعوام فقط..! فكان غياب التدرج المنطقي في استيعاب الانفتاح أن افرز الكثير من الظواهر والممارسات السلبية التي استشرت على حساب القيم والأخلاقيات النبيلة للمجتمع.. ومن هنا فإن اليمن فقدت صمام أمنها الديمقراطي الذي كانت تعول عليه في الحيلولة دون انفلات الحريات والممارسات الديمقراطية- كبديل "مؤقت" للمؤسسات القانونية.. ورغم أن ذلك كان يحدث ضمن النطاق الحضري في البداية- أي عواصم المدن- إلاّ أنه وجد طريقه بعد حين من الزمن إلى خارج حدود المدن.
• الإنقلاب
كان متوقعاً أن تكون قوى المعارضة اليمنية في صدارة المطالبين بالحماية القانونية للديمقراطية، بعد أن تراجع الرهان على قيم المجتمع وأعرافه في ظل الانفتاح الذي يجتاح البلاد بطولها وعرضها، وبعد أن بددت حرب الانفصال 1994م، وأزمة أرخبيل حنيش، ومشاكل الاختطافات والإرهاب، وغيرها من التحديات التي واجهت اليمن طوال عقد التسعينات حلم ترسيخ بناء المؤسسات الدستورية والقانونية التي تضبط حدود الممارسة الديمقراطية.. لكن ما حدث كان على العكس تماماً..
فالمعارضة اليمنية بدت كمن وجد ضالته، فهي بعد عدة تجارب انتخابية خاضتها توصلت إلى قناعة بان الحزب الحاكم يقبض على الكثير من الأوراق والإمكانيات التي بوسعه ملاعبتها بها، وترجيح كفة ميزانه على كفة أحزابها، وبالتالي فإن فرص الفوز عبر صناديق الاقتراع باتت ضئيلة جداً، ولا مناص من البحث عن بدائل جديدة لتعزيز نفوذها السياسي في الساحة!
وقد ترسخ ذلك الاعتقاد أكثر بعد إعلان نتائج الانتخابات الرئاسية الأخيرة، إذ تهيأت للحزب الحاكم فرصاً ثمينة جداً كان من شأنها أن تقضي نهائياً على نفوذ المعارضة (المشترك)، ومن غير أن يلتفت الحزب الحاكم إلى أهمية طمأنة المعارضة آنذاك، ومحاولة إشراكها، ومساعدتها على تجديد آمالها في ساحة العمل الديمقراطي..
فالقوى الدولية التي كانت تؤازر قضايا المعارضة انقلبت إلى التغني بنزاهة الانتخابات الرئاسية.. كما بدأ العالم يحشد نفسه لمؤتمرين المانحين بلندن.. وبدأت صنعاء خطوات جريئة على طريق الاندماج مع دول مجلس التعاون الخليجي.. فيما مؤتمر الاستثمار بصنعاء أنعش الطموح اليمني.. وجاء ذلك كله في غضون بضعة أشهر، لكنه حمل رسالة ضمنية تؤكد أن فرص البرنامج الانتخابي للرئيس للتحقيق باتت شبه مضمونة، وإن ثمة ثورة انتعاش اقتصادي تطرق أبواب اليمن، وأن الرهانات الكبيرة بدأت تسحر أنظار الشارع اليمني، في الوقت الذي انشغل المؤتمر الشعبي بهذه النشوة، متناسياً مسئوليته الوطنية تجاه أحزاب المعارضة بعدم السماح لها بالذبول والانزواء انطلاقاً من مفهوم الشراكة الوطنية.
أعتقد أن أحزاب المعارضة تمالكها اليأس، وأدركت أنه إذا ما انتعشت الأوضاع الاقتصادية لن تجد في الشارع من يبحث عن بطاقة حزبية.. لكنها بدلاً من مكاشفة الحاكم بحقيقة موقفها، وتحذيره مما سيؤول إليه موقفها، اتخذت قرار البدء ب"تحريك الشارع" الذي مثل أول انقلاب على الديمقراطية في اليمن..!!
ونحن نسميه "إنقلاباً" لأنه منافي للفلسفة الديمقراطية.. إذ لم يكن منطقياً أن تؤكد بعثة الاتحاد الأوروبي لمراقبة الانتخابات، ومختلف المنظمات التي شاركت في الرقابة على الانتخابات، نزاهة العملية الانتخابية، وتوافقها المشترك في الرأي، ولا يتقدم بأي طعون انتخابية للقضاء ليشكك بشرعية التجربة، ثم يقوم بعد حين بتحريض الشارع على التظاهر لمطالبة الرئيس "المنتخب" بالتنحي من السلطة..!! فذلك يعني رفضاً "عملياً" لنتائج الديمقراطية..!
وهنا برزت إشكالية جديدة أمام التجربة الديمقراطية اليمنية، إذ أن الديمقراطية اليمنية لم تعد تعاني فقط من أزمة في الحماية القانونية، بل أيضاً في ضمانات القبول بنتائجها.. وكان منتظراً من الحزب الحاكم أن يلعب بهذه الورقة المهمة أمام الرأي العام لحماية حقوقه الديمقراطية، كحزب فائز، يوجب على الآخرين منحه الفرصة الزمنية لتنفيذ برنامجه، إلاّ أنه لم يفعل، وترك الحبل على الغارب، حتى جاء اليوم الذي يجد نفسه فيه هو المتهم من قبل المعارضة ب "الانقلاب على الديمقراطية"!
• تقاعس الحزب الحاكم
كما كان متوقعاً أن يبدأ الحزب الحاكم جولته الحوارية مع أحزاب المشترك على طريق التحضير للانتخابات البرلمانية بطلب الإجابة عن سؤال محدد هو: ما هي الضمانات التي ستكفل للحزب الفائز بالأغلبية قبول بقية الأحزاب بنتائج الديمقراطية، والتعاون معه من باب الشراكة الوطنية، وليست الخصومة الإقصائية؟ فهذه المسألة هي روح العملية الديمقراطية التي أغفلها الجميع، بينما أمضوا شهوراً من الجدل لإقرار تعديل ينص على "أن أي أموال تقدم لمرشح الرئاسة يستوجب تقاسمها بينه وبين بقية أحزاب المعارضة.."!
ومن هنا فإنني أجزم بالقول بأن أي فوز محتمل للمؤتمر الشعبي العام في الانتخابات النيابية 2009م- سواء بمشاركة المشترك أو بدونها- سيواجه من قبل أحزاب المعارضة "المشترك" بتأليب الشارع، وإعلان عدم الاعتراف بسلطته التشريعية في مجلس النواب.. وأنه لن يجد نائباً واحداً من بقية الكتل يقبل دخول قاعة المجلس، لأن تجربة المعارضة في تحريض الشارع على "تغيير" الحاكم المنتخب حديثاً، والصمت الذي قوبلت به من قبل الحزب الحاكم، ولّد قناعة لدى أحزابها، وثقافة لدى الشارع بأن عدم القبول بنتائج الديمقراطية هو ممارسة ديمقراطية أيضاً، وأن من حق الآخرين إسقاط الشرعية عنه، حتى ولو ببلاغ صحافي توزعه على وسائل الإعلام..
ومع أن مثل ذلك السلوك يجرّم صاحبه دستورياً، ويعده "عصياناً" أو "تمرداً على سلطة شرعية"، إلاّ أن الحزب الحاكم تقاعس عن توضيح هذه الحقائق، وعن توعية اليمنيين ببعض المفاهيم القانونية والنصوص الدستورية التي تحدد الحقوق والواجبات الوطنية.. وبالتالي فلو أعلنت أي قوة سياسية عدم الاعتراف بالمجلس النيابي المنتخب، ومهما كانت شهادات النزاهة والشفافية الانتخابية- فإن أي ردود فعل من قبل السلطة لردع الجهة "المتمردة" على شرعية البرلمان المنتخب ستصطدم بموروث ثقافي ثقيل يؤمن بأن "إسقاط الشرعية" هو من الحقوق والحريات الديمقراطية، وأن ما تقوم به السلطة هو الانتهاك بعينه!
لا شك أن تقاعس المؤسسة الإعلامية للحزب الحاكم، ومنظمات المجتمع المدني الموالية عن مسئولياتها في تنوير المجتمع بالحقوق الديمقراطية، والواجبات الوطنية أفرغ التجربة الديمقراطية من إحدى أدوات حمايتها المهمة للغاية- المتمثلة بالوعي- وبالتالي فإن المفاهيم الديمقراطية المشوهة وجدت طريقها إلى ثقافة المجتمع، وتوغلت، وتنامت، دون أن يحرك أحد ساكناً..
وفي ضوء هذا التفرد في مسخ الوعي الديمقراطي، لم يعد بوسع أحد إقناع كثير من المواطنين والقوى السياسية بأن بعض ما يمارسونه لا يمت للديمقراطية بشيء.. إذ شهدت بعض مدن اليمن الجنوبية تخريباً وحشياً، وإحراقاً لمكاتب حكومية مع وثائقها، واعتداءً على مواطنين، فهبت أحزاب المعارضة للدفاع عمن اعتقلتهم الدولة، بدون مراعاة الجانب الجنائي، ولا الحق المدني العام، ورفضت حتى تحميل شخص واحد فقط مسئولية الاعتداء على ممتلكات الدولة العامة- التي تعتبر في كل الشرائع العالمية حقاً وطنياً للشعب وليس للسلطة..
بل بلغ الأمر أن يعترف متهمون أمام القضاء ووسائل الإعلام بأنهم لا يعترفون بالجمهورية اليمنية، ولا يحترمون علمها، ولا وحدتها، ولا دستورها، ولا نظامها، ومع هذا أصرت المعارضة على المطالبة بإطلاق سراحهم، والتهديد بتصعيد العنف إن صدر حكم بحقهم... وظلت تفهم هذه المطالب على أنها "سلوك ديمقراطي راقي"!!
إن جنوح التجربة الديمقراطية إلى هذا الحال، أطلق أبواب الفوضى، وفتح الطريق إلى ثقافة (العنف الديمقراطي)، وهي الثقافة التي تمنح صاحبها حق ممارسة العنف من أجل نيل المطالب، أو فرض وجهة النظر..!
• عاصفة التكوينات المدنية
انتقلت أحزاب المعارضة إلى مشهد صاخب بكل ما تعنيه الكلمة، وكان لها هدف واحد فقط وهو "تثوير الشارع"، وإيصاله إلى الحالة "الجورجية" التي انقضت خلالها الجماهير "الجورجية" على مؤسسات الدولة، وأطاحت بنظامها بين ليلة وضحاها.. خاصة وأن المناخ القانوني مهيأ جداً لمثل هذا التوجه..!
وكانت الخطوة الأولى إلى ذلك الهدف تبدأ بتفريخ الكيانات المدنية- الحقوقية في ظاهرها، السياسية في أدائها- واتخاذها مظلة لتأليب ساحة الرأي العام، حتى لأتفه الأسباب.. فشهدت الساحة اليمنية ولادات غير مسبوقة لمنظمات تحت مختلف المسميات، واجتاحت بيانات الاستنكار والتنديد مواقع الصحف، والقوائم البريدية الالكترونية على مدار الساعة.. فيما تقاطعت الاعتصامات والمسيرات على بوابتي مجلس النواب ومجلس الوزراء التي كانت تشهد ما لا يقل عن فعاليتين إلى ثلاثة يومياً.. ولم يترك يوم الجمعة يذهب سدىً، بل ظهرت (صلوات جمعة احتجاجية) في ساحة الديمقراطية المقابلة لمجلس الوزراء..!
ورغم أن تلك الفعاليات والأنشطة وتفريخ المنظمات والائتلافات تعتبر ظاهرة ديمقراطية صحية في أدبيات دول الديمقراطيات الراسخة، إلاّ أنها في اليمن لا تدخل ضمن ذلك التوصيف لأن الغالبية العظمى منها كانت "غير شرعية"، ولا تمتلك أي تراخيص قانونية لنشأتها من قبل وزارة الشئون الاجتماعية.. وهنا مكمن داء الديمقراطية اليمنية.
لكن الأغرب في كل هذا هو أن أحداً لم يعترض عليها، ولم يطلب منها ترخيص، بل أن الوسط السياسي باختلاف انتماءاته، والنخب الحكومية تعاملوا معها بكل احترام، ولبوا دعواتها، وشاركوا في ندواتها كمتحدثين أساسيين، فأضفوا عليها بذلك صبغة الاعتراف شبه القانوني، دونما بعد نظر في قراءة أسباب ظهور هذه التكوينات، والغاية منها، ومستقبل نشاطها في ظل تواجدهم في صفوفها، ومنحها الثقل الكافي للاستحواذ على ثقة ساحة الرأي العام..!
إن هذا اللون من الإباحية لساحة المجتمع المدني، أضعف صوت المنظمات الحقيقية التي كانت فاعلة.. وهذا أمر خطير لأنه أفقد الدولة شريكها الجماهيري التنموي، المكمل لأدوارها- كما منح الأحزاب المعارضة فرصة تمرير خطابها غير المسئول، ومشاريعها غير الديمقراطية تحت مظلة هذه المنظمات التي أصبحت تنوبها في كل ما تتمنى قوله أو فعله دون أن يتسبب ذلك بإحراج وضعها الدستوري.. وبالمقابل كانت الأحزاب توفر للناشطين فيها حماية وضغطاً جماهيرياً فيما لو تعرض أحدهم لاعتقال أو مساءلة من قبل السلطات..!
ولو حاولنا اليوم عمل إحصائية بتلك التكوينات المدنية لوجدنا أن غالبيتها العظمى تغط في نوم عميق، لأنها تتحرك عندما تتطلب اللعبة السياسية وجودها في الشارع وفي قاعات الفنادق، وعلى واجهات وسائل الإعلام.. وبتقديري أنها كانت القشة التي قصمت ظهر الديمقراطية، وسفهت ممارساتها، ووأدت الوظيفة الحقيقية للمجتمع المدني.. وكان مؤسفاً أنها ما كان ليكتب لها الحياة لولا تعطيل القانون عن دوره، لأنه مناط به منعها من ممارسة أي نشاط بغير ترخيص، ومراقبة أداء المرخصة منها وضمان عدم خروجها عن نظامها الأساسي التي حصلت على ترخيص العمل بموجبه.. لكن شيئاً من هذا القبيل لم يحدث إطلاقاً..!!
• مشهد أخير لخيارات متقدمة..
وهكذا تطور حال الديمقراطية اليمنية من الممارسة المسئولة إلى العبث السياسي، نظراً لتغييب الحماية القانونية للديمقراطية، وتراجع القيم السلوكية، وافتقار بعض القوى السياسية للوعي بمدلول الديمقراطية..
وخلال العام والنصف الماضي، اطمأنت الأحزاب اليمنية من الموقف الآخر، لذلك لم تعد بحاجة إلى تكليف إحدى التكوينات المدنية لتنظيم مهرجان، والدخول تحت مظلته تفادياً للمساءلة القانونية، بل أن اللقاء المشترك أصدر عدة بيانات يعلن فيها عدم اعترافه بقانون تنظيم المسيرات والتظاهرات، وبادر إلى تنظيم عدة فعاليات من ذلك القبيل دون أخذ الترخيص بها..
ومع أن الاعتراض على قانون ما يعد حق مكفول، ولكن عبر قنواته الشرعية، أي بالطعن أمام البرلمان عبر الكتل النيابية، ولا يجوز انتهاكه قبل أن يبت البرلمان به- وهو ما لم يحدث!!
ومن الواضح أن المشترك كان يتعمد مثل ذلك السلوك من أجل استفزاز السلطات الأمنية، وجرها إلى الاحتكاك بالمتظاهرين، والدفع بالموقف إلى حالة الصدام والعنف وسقوط الضحايا، وهو الظرف المناسب جداً لمشروع "تثوير المدن" الذي سبقت الإشارة إليه..
وربما التفت بعض المتابعين لتطورات الأحداث كيف أن سقوط قتيل يتحول إلى "رمز ثوري" لإلهاب مشاعر الغضب الجماهيري لدى الشارع، ليس فقط يوم مقتله، بل يوم تشييعه، وفي ذكرى اليوم السابع، ثم الأربعينية، والذكرى النصف سنوية، والسنوية، ناهيكم عن الفعاليات التي تقام تحت شعار "تخليد ذكرى الشهيد"..
هذا ما حدث عندما قتل أحد أبناء عدن يوم 13 يناير الماضي، بينما يوم 14 يناير قتل أحد أبناء الضالع "محمد الوداد" بقنبلة المعارضين، فلم تصدر الأحزاب أي بيان بشأنه، ولم تغضب، أو تأت على ذكره، كما لو أنه ليس نفساً بشرية أو ليس مواطناً يمنياً... وهذه الحادثة تعد نموذجاً مثالياً على غياب البعد الإنساني والأخلاقي من العمل الديمقراطي.. وهو ما يعني فقدان الهدف الأساس من الممارسة، لأن الديمقراطية وجدت لحماية الإنسان والارتقاء بوسائل حياته الكريمة..!
والجدير لفت الانتباه له هنا هو أن الخلاف على ضرورة الترخيص للمسيرات والتظاهرات بين المعارضة "المشترك" والسلطة كان يقابل بتصريحات داعمة للمشترك من قبل المنظمات الدولية العاملة في اليمن، وبعض الدبلوماسيين الغربيين، رغم أن جميع دول العالم- سواء دول الديمقراطيات الراسخة أو الناشئة- تشترط الحصول على الترخيص الأمني المسبق لمثل هذه الفعاليات.. وهذا الموقف المتناقض له ما يفسره، والذي سنخصص له قراءة مستقلة في وقت لاحق.
ومما سبق نجد أن الوظيفة التنموية للديمقراطية لم تعد قائمة في ظل الممارسات اللا مسئولة، وخروجها عن مسارها الطبيعي.. وبالتالي فإن أي تصعيد مستقبلي للعنف، وأي محاولة لجر اليمن إلى الفتنة و"الفوضى الخلاقة" قد يؤدي إلى طرح موضوع (تعليق الديمقراطية) على طاولة صناع القرار اليمني، إذا ما استشعرت القيادة اليمنية بأن البلد منزلق إلى مقامرة على السيادة الوطنية..
فبتقديري، أن أحزاب المشترك لا يمكن أن تكتفي بالمقاطعة والوقوف متفرجة على الناخبين وهم يقترعون، بل أنها حتماً ستعمل المستحيل للحيلولة دون استقرار الحالة الأمنية، لأن الديمقراطية لا تستقيم في ظل الفوضى الأمنية..
وبلا شك أن ما يحدث في اليمن كان متوقعاً بنسب متفاوتة، لأنه ترجمة لتفاعلات المخاض الأول.. ورغم أن ثمة قلق من التوتر السياسي الحاصل، إلاّ أن اليمنيين لديهم ثقة كبيرة بأن قيادتهم السياسية تملك كثيراً من الحكمة التي تؤهلها لإعادة التوازنات للساحة الوطنية بطريقة أو بأخرى..
شخصياً- لا يهمني من يحكم اليمن، فكل المتنافسين هم أبنائها، ولهم حق شرعي ودستوري في التطلع إلى الحكم، وكل الأحزاب لا تخلو من رموز وطنية شريفة.. لكن ما يقلقني هو أن تفلت زمام الديمقراطية من أيدي الجميع فتحكمها الفوضى، ويفوز بكرسيها من كان أشد عنفاً وفتكاً بأخيه!! رغم أنني أؤمن أن "الحكمة يمانية"، وأن الحبيب المصطفى– صلى الله عليه وسلم- "ما ينطق عن الهوى إن هو إلاّ وحي يوحى"..


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.