ما كانت اليمن ستواجه أزمتها السياسية الراهنة لولا إصرار قيادتها على الانتقال بالتجربة الديمقراطية إلى مراحل متقدمة مثّلت تهديداً لوجود القوى التقليدية المتنفذة, وفي مقدمتها القبلية والدينية, التي ما إن استشعرت بخطر التحولات المدنية حتى أعادت إنتاج نفسها تحت مظلة الديمقراطية ليس بقصد التمدن ومواكبة المفاهيم العصرية للحياة وإنما لإعاقة ذلك واستثمار كل الفرص والممارسات المتاحة لحماية وجودها. الديمقراطية التي حررت أوروبا من هيمنة الكنائس والاستبداد الإقطاعي أضافت في اليمن نفوذاً سياسياً للقبيلة والتيارات الدينية من خلال الأحزاب التي تشكلت من تلك الفئات لما تتمتع به من نفوذ مالي وتجاري واجتماعي يمكن استثماره انتخابياً في بلوغ مراكز صنع القرار على الصعيد البرلماني والمحلي فضلاً عن تمثيل المجتمع المدني, الأمر الذي أفسد داخل قبة البرلمان كل مشاريع التحول المدني كتلك المرتبطة بحمل وحيازة الأسلحة, والتنمية السياحية, ومكافحة الإرهاب, ومشاركة المرأة, وتعديلات قانون الأحوال الشخصية بجانب مشاريع الإدارة المحلية وانتخابات المحافظين التي قاطعتها المعارضة ثم المجالس المحلية الواسعة الصلاحيات التي من شأنها جميعاً تقويض نفوذ القوى التقليدية وأولهم المشائخ. إن المفارقة الغريبة هي أن قوى المعارضة اليمنية التي يفترض بها تبني مشروع التحول المدني المؤسسي للدولة اتجهت إلى النقيض من ذلك تماماً, حيث إنها أولت قيادة أعلى هيئة حوارية وطنية لأحد المشائخ, وانهمكت بالحشد والتعبئة للمشائخ لتأسيس المجالس واللجان الوطنية والمنتديات والمؤتمرات التحالفية ذات الصبغة القبلية والمناطقية وكذلك المذهبية, إلى درجة رفض أجهزة الدولة المؤسسية في حماية أنشطتها والاستعاضة عنها برجال القبائل المسلحين. إن الأزمة السياسية الراهنة هي في الحقيقة ليست مجرد خلافات على مطالب ديمقراطية بقدر ما هي مشروع أخير لإسقاط الديمقراطية, من خلال إفراغها من جميع مضامينها. فعدم إجراء أية ممارسة انتخابية لتسع سنوات متتالية هي وحدها ضربة قاصمة للديمقراطية التي تمثل العملية الانتخابية عمودها الفقري, كما أن رفض الامتثال للقوانين المنظمة للممارسات والحقوق الديمقراطية كتلك المتعلقة بالترخيص للمسيرات والمنظمات والصحف وحريات التعبير يعني تجريد الديمقراطية من حمايتها القانونية والتشريع للفوضى التي تفقد الديمقراطية احترامها وقيمتها الأخلاقية والإنسانية وتحولها إلى مظلة لإباحة المحظورات, وهو بالضبط ما تسعى إليه القوى التقليدية لتفرض قوانينها وأعرافها الخاصة ولتمارس نفوذها المجتمعي بغير مساءلة, ولتحول المسيرات والمنظمات والصحف إلى أدوات ابتزازية خارقة قادرة على تحويل القتلة وقطّاع الطرق والمخربين في الحراك إلى مناضلين أبطال, وترغم الجميع على منحهم فروض الولاء والطاعة!. ولعل الممارسة الأخطر باتجاه إسقاط الديمقراطية هي عندما تقوم أحزاب تأسست بموجب الدستور بإعلان الاعتراف بحركات تمرد مسلحة رافضة تنظيم نفسها بصفة شرعية, وتبادر إلى التحالف معها وإقامة أنشطة جماهيرية مشتركة كما هو حال علاقة أحزاب المشترك مع الحراك والحوثيين. فمثل هذا الفعل يعد تسفيهاً سافراً للحياة السياسية والديمقراطية, ويبلغ ذروة سفاهته عندما تطلب هذه الأحزاب من الدولة إشراك القوى المتمردة بالعملية السياسية رغم علمها أن هذه القوى لا تعترف بدستور الدولة وقوانينها, وأنها لا تمتلك أية صفة قانونية في وجودها!. بتلك الأساليب وجد اليمنيون أنفسهم محاصرين مجدداً بالمشائخ والوجاهات القبلية والرموز الدينية, ولكن هذه المرة عادوا بلباس ديمقراطي أضاف قبل اسم كل منهم لقب (النائب) أو (عضو المجلس المحلي) أو (رئيس لجنة الحوار الوطني) أو (المجلس الوطني) وغيرها من الألقاب التي تمكنهم من إحباط أية محاولة للقضاء على نفوذ القبيلة وزمن الإقطاعية وسلطة رجال الدين. ومن المؤكد أن صناعة الأزمات السياسية ظلت الرهان الأعظم على وأد كل مشاريع تنمية الديمقراطية وتعزيز الحياة المدنية في المجتمع وقتل كل مظاهر الحياة العصرية التي يمكن أن تصنعها الكفاءات العلمية الشبابية التي ترى فيهم القوى التقليدية مصدر هلاكها, لذلك ظلت تحرص على زجهم بلعبة الأزمات السياسية وتحجب عن رؤوسهم الحقيقة التي تفتك بالديمقراطية.