اقترن المفهوم الثوري لدى الشعوب بطموح امتلاك الذات الوطنية والإنسانية، فيما ظهر مشروع الدولة الحديثة كإطار سياسي لترجمة ذلك الطموح عملياً، الأمر الذي جعل من القوى التقليدية العصبوية في حالة صدام مزمن مع القوى الثورية لتقاطع مسار التطور والتحديث مع مصالح تلك القوى. وفي اليمن خاضت الأنظمة السياسية تجارب مريرة مع القوى التقليدية القبلية التي كانت في شمال الوطن مؤثرة بقوة في القرار السياسي، فجعلها الرئيس الحمدي في مقدمة خصوم مشروعه الحداثي للدولة، وخاض حملة اجتثاث لها من المراكز المهمة، فيما تعاطى معها الحزب الاشتراكي في شطر الجنوب بتصفيات دموية، غير أنه ضم إلى جانب التيار القبلي التيار الديني أيضاً. بعد الوحدة اليمنية 1990تفاءلت القوى الوطنية المختلفة بأن التحولات الديمقراطية ستكفل الفرص الأوسع في تاريخ اليمن لتذويب القوى التقليدية في الحياة المدنية، وبما يعزز من مسارات التحول لمشروع الدولة المؤسسة الحديثة. لكن قراءتنا الحالية - بعد 19عاماً من عمر الوحدة - تؤكد أن تلك القوى التقليدية نجحت في اختراق الديمقراطية، والتسلق إلى مراكز صنع قرار بعض الأحزاب، لتعيد إنتاج نفسها بقالب جديد يتمتع بحقوق دستورية في التحرك بحرية في الساحة اليمنية، والوقوف مجدداً في طريق مشروع الدولة المؤسسية الحديثة، وتعطيل المسار الديمقراطي. فالديمقراطية في نظر القبيلة هي الأداة التي ستسحب البساط من تحت أقدام المشائخ المتسلطين، من خلال المجالس البرلمانية والمحلية، كما تحد من نفوذهم وانتهاكاتهم من خلال الأجهزة الرقابية ومنظمات المجتمع المدني، والحريات الصحافية.. وبفقدانهم هذه الامتيازات فإنهم حتماً سيفقدون جزءاً كبيراً من أسباب النفوذ والهيبة داخل بيئتهم الاجتماعية - خاصة إن أخفقوا في الانتخابات. ومن ذلك المنطلق انحرف مسار العمل السياسي لدى العديد من الأحزاب اليمنية، ليتحول من مطالب الدولة الحديثة إلى الفوضى الديمقراطية، والدعوة إلى تكريس العصبيات المناطقية والقبلية والمذهبية والأسرية، مسوغاً تلك الدعوات بمبررات واهية جداً تقول: إن القبيلة هي الأقدر على توفير الحماية الأمنية للمواطنين من الدولة - على غرار ما تحدثت به أحزاب المشترك في اعتصام يوم الخميس الماضي في «كرش». وهنا لابد من التساؤل: هل تبني المعارضة لدعوات العودة إلى العصبيات القبلية يعني أنها تخلت عن شعارات الدولة المؤسسية، أم أنها تعتقد أن دولة المؤسسات تصنع بالعودة إلى النظام القبلي الذي وقف بوجهه الرئيس الحمدي، وتفاخر به الناصريون الموجودون الآن داخل المشترك.. والذي نحر الاشتراكيون رقاب مئات المشائخ منه بتهمة «الرجعية»!؟. والسؤال الأهم هو: ما جدوى بقاء الديمقراطية وقانون التعددية طالما الأحزاب اليمنية أعادت المشائخ والسلاطين والعصبيات المذهبية والمناطقية، وتزج بالمخربين للشوارع لإحراق وتدمير المؤسسات الحكومية!؟