لا شيء أفدح ضرراً على الديمقراطية من تجاوز خصوصيات الذات وإسقاط تجارب الغير، لأن التقاطع مع الواقع حتماً سيفضي في مرحلة ما إلى صدام عنيف، إما ينقلب فيه الواقع على الديمقراطية، وإما تتجرد الديمقراطية عن قيمها وأدواتها لتفرض نفسها كظاهرة شكلية خاوية من مضامينها السلمية والتنموية التي وجدت لأجلها. في الحالة اليمنية تبدو التجربة مختلفة قليلاً، وتفسر ما وراء العثرات التي تواجهها اليوم، والتي سمحت بظهور اتجاهات غير سوية في ساحة العمل السياسي الوطني.. فالتجربة اليمنية بدأت بخصوصية وطنية ذات ملامح يمنية واضحة، ترتكز على رهانات البرامج المرحلية، والتدرج في سلم بناء المتطلبات التنموية والديمقراطية، حيث إن الواقع الاجتماعي والثقافي والسياسي لحظة إعلان الوحدة لم يكن يسمح بجرعة انفتاح كاملة. ولما كانت التجربة اليمنية هي الأولى إقليمياً فإن رغبة المجتمع الدولي، وبالذات الولاياتالمتحدة، في تحويلها إلى أنموذج قابل للتصدير إلى جاراتها من الدول الخليجية دفع بالمعهد الديمقراطي الأمريكي وعشرات المنظمات الأوروبية والأمريكية إلى الساحة اليمنية بقصد تأهيل التجربة وتعزيز ممارستها، وهو الأمر الذي وإن كان مجدياً نسبياً إلاَ أن النسبة الأعظم منه تحولت إلى غير صالح التجربة اليمنية، ونعلق عليه أسباب ما يحدث حالياً. فمن الأخطاء الفادحة التي ارتكبتها بعض المنظمات الدولية المؤثرة هي أنها قفزت فوق الواقع اليمني وباشرت بإسقاط تجارب وممارسات متقدمة جداً قياساً لقصر عمر الديمقراطية اليمنية، الأمر الذي مثل تدفقاً خانقاً لم تكن الساحة تطيق احتماله، أو أن تهضمه بالسرعة التي يشق طريقه بها وسط المجتمع خاصة في ظل الموروث الاجتماعي والثقافي الثقيل الذي يرهق اليمن. فالمنظمات الدولية شجعت بقوة إقامة منظمات وتكتلات محلية نوعية وزجتها بمواجهة السلطة بقائمة مطالبات ثقيلة لم يكن ممكناً للدولة الوفاء بكل التزاماتها، في نفس الوقت الذي دفعت الأحزاب المعارضة بقوائم مطالباتها الخاصة، دونما مراعاة لظروف الدولة، وتحدياتها، وإمكاناتها، ومهارات رموزها، ومدى توازن كل ذلك مع المطالب! كما أن هذه المنظمات الدولية أقصت الغالبية العظمى من الكفاءات الناضجة، وفضلت التعامل مع من هم بالكاد بلغوا سن الرشد لتسهل على نفسها تعبئتهم بأفكارها، وتطويعهم لرغباتها وغاياتها، فأوجدت حراكاً متهوراً لايمكن للسلطة كبح جماحه كونه قائماً بصفة قانونية، ومدعوماً علنياً من قبل هيئات دولية. ومن جهة أخرى فإن تلك المنظمات اتخذت موقفاً منحازاً لكل ما يعارض السلطة حتى وإن كان غير منطقي أو مخالف للقوانين اليمنية أو يترتب عنه انتهاك حقوقي للغير، وباتت تحشد لمؤازرته قواها المدنية في الخارج مشكلة ضغطاً سياسياً على الدولة اليمنية بحيث أصبحت من أهم أسباب الانتهاك القانوني والدستوري الذي تمارسه بعض المنظمات والأحزاب والأشخاص، وبالتالي فإن الديمقراطية اليمنية فقدت حمايتها القانونية وبدأت ممارستها تنزلق إلى اتجاهات غير مشروعة أو فوضوية أو تمس السيادة الوطنية، ولعل من أغرب مواقف تلك المنظمات إدانة اعتقال مسلحين هاجموا نقطة أمنية وقتلوا أحد أفرادها وأصابوا آخرين، وكذلك إدانة منع الدولة للقوى السياسية لتنظيم مظاهرات دون ترخيص مسبق رغم أن القضيتين هما موضع إجماع عالمي بسلامة إجراءات السلطة، وهو ما يكشف حقيقة الجرم الذي ارتكبته المنظمات الدولية بحق اليمن، وتجربتها الديمقراطية. وللأسف كان هناك الكثير جداً من الاستغلال السياسي في عمل المنظمات الدولية، والكثير من الألاعيب والمناورات التي خاضتها بين القوى السياسية الوطنية المختلفة، والتي خلطت بها أوراق العملية الديمقراطية حتى أوصلتها إلى حالة قريبة من الفوضى، والتي يتوجب على اليمن مراجعة حساباتها مع تلك المنظمات، وتقرير مدى جدواها من ضررها إذا ما واصلت العمل في اليمن خاصة في هذه الفترة الحرجة.