كان يوماً غامضاً وقريباً من تخوم الحقيقة عندما فاضت عدن الليل والمرايا ببعض من بعضها والتقى الأصدقاء عند تخوم أقدامها الخضراء ، هنالك في مرابع قرية (الوهط) التي تستنشق الأثير وتغيب في فضاء اللامكان ناشرة ظلالاً من سندس أزرق وطيور خضراء وفراشات بنفسجية. ما كان للحضور أن يتجاوزوا سحر المكان وعبقريته فتمايزوا وتمازجوا وتقاربوا وتباعدوا وتلاسنوا وصمتوا وقالوا أشياء ولم يقولوا أكثر المعاني.. في تلك اللحظة، انطلق صوته من مقام ( الفهوانية) لكنه لم يكن يدرك أنه صدح بصوته.. وعندما سمعه الحضور أنكر ما سمعوه وقال بأنه لم يستدع ِأحداً ولم يطلق صوتاً ولم يتحدث!، ذلك أنه لم يُدرك أنه مقيم منذ زمن بعيد في مقام ( البهللة).. والبهلول إنسان يأتي بما لم تستطعه الأوائل، لكنه لا يدرك ذلك، ويقول أكثر المعاني تجوهراً وشعشعانية ولكنه لا يدرك ذلك، ويفيض بأجمل الفشفشات والنشنشات والشنشنات والعنعنات ولا يُدرك ذلك.. كان صاحبي «مُتبهللاً فهوانياً» وهو لا يدرك ذلك.. ولتعريف هذين المصطلحين لا بد من العودة إلى التصوف العربي الإسلامي، فالبهلول هو ذلك الذي نعتقد بأنه لا يعرف ويجهل، ولا يتحدث فيصمت، ولا يرد عن نفسه الإساءة فيتقبّل، ولا يأخذ فيعطي، وهو بهذا المعنى يجسد مثابة العرفان المطبوع الذي يأتيه فيضاً ومنة ومنحة، ومقامه أعلى من مقام العرفانيين الذين يكتسبونه بالدربة والجد والمعرفة. ثم نأتي على«الفهواني» المرصود في أساس في الهو والأنا، فإذا اجتمع الهو مع الأنا انبجست تميمة الحلاج الكبرى: سبحان من أظهر في ناسوته سر سنا لاهوته الثاقب وهكذا يكون «الفهواني» مُتبهللاً بالضرورة، غير أن المتبهلل يضع قدميه على العتبة الأولى للفهوانية فينال حظه من المقام اللاحق بقدر ماتأتيه الفيوضات والمنح الربانية، تماماً كما كان حال إبراهيم بن أدهم العراقي وأحمد بن علوان اليماني وذو النون المصري وطاغور الهندي .