لا تُذكر زبيدة بنت جعفر إلا ويُذكر معها الخليفة العباسي الأكبر والأشهر هارون الرشيد، فقد كانت زوجته الأثيرة ورفيقة دربه الطويل، ولم تختلف معه إلا حين علمت بأنه يُفضل ابن زوجته الثانية «المأمون» على ابنها «الأمين»، وهذا التفضيل لم يكن يتعلق بالوالد الأب هارون الرشيد المحب لولديه كأي أب في العالم، بل بأمر الخلافة، فقد كان الرشيد يرى أن المأمون أكثر رصانة وحكمة وروية من أخيه الكبير الأمين، وهذا ماشكل مصدر إزعاج لزوجته الوفية زبيدة بنت جعفر . عندما تزوج هارون الرشيد من زبيدة كان يوم الحفل مشهوداً وعلامة فارقة في تاريخ العرب، وقد كان الرشيد مُحباً لزوجته زبيدة، لا يطيق فراقها ولا يمل صحبتها ولا يرفض لها طلباً كما قيل، وكانت زبيدة بدورها زوجة رائعة وفيّة جمعت بين الخصال والفعال وحق عليها وصف «ابن تغري بردي» الذي وصفها بأنها أعظم نساء عصرها ديناً وأصلاً وجمالاً وصيانةً ومعروفاً، ولقد تناغمت مثل هذه الخصال مع الطرف الآخر في المعادلة الزوجية، وهذا ما يفسر قول أحمد بن خلكان في وصف هارون الرشيد الذي كان من أنبل الخلفاء وأعظم الملوك، ذا حج وجهاد .. وغزو وشجاعة ورأي . لقد تكاملت عناصر الجمال والخصال في الرشيد وزبيدة، وتتوجت تلك الملحمة بدولة عظيمة لا تغرب عنها الشمس، ولقد أصبح من مأثورات أقوال الرشيد وصفه لمكانة وعظمة دولته في معرض حديثه عن المطر حيث قال يُخاطب سحابة حُبلى بالمياه : امطري يا سحابة أنّى شئت فسيأتيني خراجك.. والحق أن الطريق من بغداد إلى مكة كان معموراً بالقصور والبساتين والدور وبرك المياه والآبار، وكانت زبيدة تشرف على أعظم مشروع مائي يخدم التجارة والحجيج، وكان الرشيد بدوره يفكر في شق قناة السويس لولا أنه تراجع عندما عرف أن القناة قد تستخدم من قبل أعداء الخلافة الإسلامية . جسّدت زبيدة المثال الأكبر في مكانة المرأة الزوجة والقائدة، وقد كانت حياة الرشيد الحافلة بالعمل والعبادة والفكر نموذجاً آخر لنجاحها، فقد عرف عن الرشيد التفقه ومحبة العلماء ومزاولة الرياضات البدنية والذهنية حتى أنه مارس الشطرنج بشغف واستمرارية ليتعلم ترويض الذهن والصبر وطول البال، وكان بالإضافة إلى كل ذلك يجد متسعاً من الوقت للعبادة وأداء الفرائض والسنن، وكانت تنتابه حالات من التوجُّد الروحي حتى وصفه البعض بأنه كان من البكّائين المتأثرين بالنصوص القرآنية وسير الصالحين . كانت زبيدة بنت جعفر تقف وراء ملحمة المُلك وبيت الزوجية وتقديم النموذج، وعندما يرد ذكرها في التاريخ تنتصب الخلافة العباسية في طورها الأكثر رقياً ورفعة.