على خلاف ما نحن عليه اليوم، فقد كان العرب «الجاهليون» أهل نخوة ومروءة.. كانوا يقرون الضيف ويؤمّنون الخائف، وينصفون المظلوم إن هو استجار بهم.. ومع أنهم كانوا أهل بأس وغلظة وتعصب أعمى للقبيلة أو العشيرة، حيث جعلهم ذلك يشتدون على بعضهم البعض..لكن ذلك كان مرجعه إلى فساد في زعامة القبيلة، فحين يثب على رأس القبيلة زعيم من رؤساء عشيرتهم تنقصه الحكمة وتنقصه المعرفة بإدارة شئون القبيلة وربما يملأ قلبه الحقد وتفتقر نفسه إلى السكينة وقد يكون خاوياً من الداخل لا يملأ نفسه سوى الظلام.. ولكنهم ما إن تنقشع تلك الغيوم التي يصنعها زعيم غير جدير بالزعامة حتى يعودون إلى السّلم كافة. فما كان لحرب البسوس أن تنشب لو كان غير كليب وغير جساس على زعامة قبيلة تغلب وبكر.. كذلك الأمر بالنسبة لحرب داحس والغبراء وحرب الفجار وكل الحروب الجاهلية؛ لكن مع ذلك كان العرب كما قلنا أهل نخوة ومروءة.. كانوا يملكون فيضاً من الإحساس أو الشعور لنجدة الآخرين، حتى وإن كان ذلك يشكل خطراً أو تهديداً للعشيرة أو القبيلة.. كانوا لا يبررون لأنفسهم التقاعس في نصرة المظلوم خصوصاً إن استجار بهم.. وكان زعماؤهم ورؤساؤهم يقفون في مقدمة أفراد العشيرة لنصرة المستجير بهم.. يتسارعون إلى نجدتهم ويدافعون عنهم كدفاعهم عن أنفسهم وأعراضهم. لم يكونوا مثلنا نتهيب الأعداء كما لو كانوا سباعاً في مواجهة قطعان من الشياه والماعز.. لم يكونوا مثلنا لا قبل الإسلام ولا بعده. فنحن اليوم معشر العرب في كل أقطارنا - إلا من رحم الله - من عجينة مختلفة تماماً عن تلك العجينة النظيفة أو النقية التي صنعها الله تعالى على عينه لهداية البشر وقيادة الأمم. نحن اليوم كما لو كنا من عجينة أخرى شارك في صنعها التاريخ المليء بمؤامرات اليهود ودسائس النصارى الصليبيين وكل الطوابير من أعداء الإسلام التي بقيت متربصة فوق الأرض بجلود تشبه جلودنا وألسن هي ألسنتنا، لكنها ترى بعيون غير عيوننا وتسمع بآذان غير آذاننا وتفكر بالطريقة التي تجعلها غريبة الانتماء والهوية، فصارت الأرض عندهم والأوطان أرخص ما يباع ويشترى في ظل أمثال هؤلاء الممسوخين، غرباء على الأوطان العربية والإسلامية بأفكارهم ونزعاتهم وميولهم، لكنهم شاركوا في صنع الهواء الذي نتنفسه وصنع الأفكار والميول والقناعات.. فقد صاروا جزءاً من العجينة. نحن لا ننكر أن هزائم الجيوش العربية أمام الجيش الاسرائيلي قد ألقت بظلالها الثقيل القاتم على تفكير بعض الزعماء والقادة العرب، فجعلهم ذلك يجفلون ويتهيبون المواجهة مع اسرائيل، وقد زاد من هذا الخوف وعمقه في نفوسهم ما تبذله اسرائيل وأمريكا وأوروبا من حرب نفسية خفية مفادها أن اسرائيل دولة لا تقهر، وفإنها تملك من وسائل الدمار ما يسمح لها بتدمير البلاد العربية كلها، كما لو كان سكان البلاد العربية والإسلامية أسراباً من الدجاج وقطعاناً من الماشية وليسوا نماذج من البشر مازالوا يحملون الشفرة الوراثية التي جعلتهم ينتصرون على أعدائهم الأقوياء جداً في معارك كانت تبدو غير متكافئة في مواجهتهم مع الرومان والفرس الصليبيين والتتار والفرنسيين والطليان والانجليز. ولأن العجينة التي تكونت منها الشعوب العربية والإسلامية لم تعد نقية كما أسلفنا، فقد وجد اليهود والأمريكان ضالتهم المنشودة في هذه العجينة فاصطنعوا منها العملاء واخترقوا بهم الأجهزة الأمنية للعرب والمسلمين، بل استطاع اليهود والأمريكان أن يوظفوا كتاباً وإعلاميين ومحللين سياسيين لرفع درجة الخوف من قوة اليهود والتقليل من شأن المقاومة العربية، وأن اسرائيل هي الدولة التي لا تقهر. وعندما يهمس المستشارون في آذان القادة والملوك والرؤساء بأن اسرائيل دولة لا تقهر ولا تجوز عليها الهزيمة، فإنه لا يعلم إلا الله سبحانه وتعالى من أين جاءت تلك القناعات.. أليست أمريكا في كثير من الأحيان صاحبة الفضل أو التفضل في اختيار بطانة الحاكم ومستشاريه وحاملي الأسرار والأختام، فمن أي عجينة يتم اختيارهم؟!. الكل يعلم أن المقاومة العربية ضد الاحتلال الاسرائيلي الغاصب لا تمتلك السلاح المتطور الذي تملكه اسرائيل أو تملكه الجيوش العربية، ومع ذلك فقد استطاعت المقاومة في لبنان وغزة أن تقترب من الديك الخرافي الاسرائيلي الذي تزعم اسرائيل أنها تستطيع أن تهزم به كل العرب ومثلهم معهم، بل استطاعت المقاومة الاشتباك مع الديك الأسطوري الاسرائيلي وتنتف بعض ريشه حتى بانت سوءته.. ألا يخفف هذا العمل البطولي من الوهم والتهويل في أن اسرائيل دولة لا تقهر؟!.