"القسام" تعلن عن عمليات "نوعية" ضد قوات العدو جنوب قطاع غزة    شركة النفط: الوضع التمويني مستقر    الدكتور عبدالله العليمي يعزي العميد عبده فرحان في استشهاد نجله بجبهات تعز    الرئيس المشاط يعزّي في وفاة الدكتور عبدالله محمد المجاهد    نصيحة لبن بريك سالم: لا تقترب من ملف الكهرباء ولا نصوص الدستور    مفتي عُمان يبارك "الانجاز الكبير" لليمن بضرب مطار بن غوريون    تحالف (أوبك+) يوافق على زيادة الإنتاج في يونيو القادم    ارتفاع حصيلة ضحايا العدوان الإسرائيلي على غزة إلى 52535 شهيدا و118491 مصابا    قيادي حوثي يفتتح صيدلية خاصة داخل حرم مستشفى العدين بإب    وزير الدفاع الإسرائيلي: من يضربنا سنضربه سبعة أضعاف    عدن: تحت وقع الظلام والظلم    ريال مدريد يتغلب على سيلتا فيغو في الدوري الاسباني    «كاك بنك» يدشن خدمة التحصيل والسداد الإلكتروني للإيرادات الضريبية عبر تطبيق "كاك بنكي"    هيئة رئاسة مجلس الشورى تشيد بوقفات قبائل اليمن واستعدادها مواجهة العدوان الأمريكي    بن بريك اعتمد رواتب لكل النازحين اليمنيين في عدن    أعضاء من مجلس الشورى يتفقدون أنشطة الدورات الصيفية في مديرية معين    وفاة طفلتين غرقا بعد أن جرفتهما سيول الأمطار في صنعاء    شركات طيران أوروبية تعلق رحلاتها إلى إسرائيل بعد استهداف مطار بن غوريون بصاروخ يمني    الدكتور أحمد المغربي .. من غزة إلى بلجيكا.. طبيب تشكّل وعيه في الانتفاضة، يروي قصة الحرب والمنفى    الخبجي : لا وحدة بالقوة.. ومشروعنا الوطني الجنوبي ماضٍ بثبات ولا تراجع عنه    اسعار الذهب في صنعاء وعدن الأحد 4 مايو/آيار2025    الوزير البكري يهنئ سالم بن بريك بمناسبة تعيينه رئيسًا للحكومة    أبو عبيدة:التصعيد اليمني على الكيان يتجاوز المنظومات الأكثر تطوراً بالعالم    وجّه ضربة إنتقامية: بن مبارك وضع الرئاسي أمام "أزمة دستورية"    أطباء تعز يسرقون "كُعال" مرضاهم (وثيقة)    92 ألف طالب وطالبة يتقدمون لاختبارات الثانوية العامة في المحافظات المحررة    بن بريك والملفات العاجلة    يفتقد لكل المرافق الخدمية ..السعودية تتعمد اذلال اليمنيين في الوديعة    هدف قاتل من لايبزيغ يؤجل احتفالات البايرن بلقب "البوندسليغا"    ترحيل 1343 مهاجرا أفريقيا من صعدة    لاعب في الدوري الإنجليزي يوقف المباراة بسبب إصابة الحكم    السعودية تستضيف كأس آسيا تحت 17 عاماً للنسخ الثلاث المقبلة 2026، 2027 و2028.    الأهلي السعودي يتوج بطلاً لكأس النخبة الآسيوية الأولى    التركيبة الخاطئة للرئاسي    وادي حضرموت على نار هادئة.. قريبا انفجاره    أين أنت يا أردوغان..؟؟    مع المعبقي وبن بريك.. عظم الله اجرك يا وطن    المعهد الثقافي الفرنسي في القاهرة حاضنة للإبداع    العدوان الأمريكي يشن 18 غارة على محافظات مأرب وصعدة والحديدة    اعتبرني مرتزق    رسائل حملتها استقالة ابن مبارك من رئاسة الحكومة    نقابة الصحفيين اليمنيين تطلق تقرير حول وضع الحريات الصحفية وتكشف حجم انتهاكات السلطات خلال 10 سنوات    - حكومة صنعاء تحذير من شراء الأراضي بمناطق معينة وإجراءات صارمة بحق المخالفين! اقرا ماهي المناطق ؟    مقاومة الحوثي انتصار للحق و الحرية    "ألغام غرفة الأخبار".. كتاب إعلامي "مثير" للصحفي آلجي حسين    مقاومة الحوثي انتصار للحق و الحرية    الحقيقة لا غير    مصر.. اكتشافات أثرية في سيناء تظهر أسرار حصون الشرق العسكرية    اليمن حاضرة في معرض مسقط للكتاب والبروفيسور الترب يؤكد: هيبة السلاح الأمريكي أصبحت من الماضي    القاعدة الأساسية للأكل الصحي    أسوأ الأطعمة لوجبة الفطور    الفرعون الصهيوأمريكي والفيتو على القرآن    مانشستر سيتي يقترب من حسم التأهل لدوري أبطال أوروبا    الكوليرا تدق ناقوس الخطر في عدن ومحافظات مجاورة    من يصلح فساد الملح!    الإصلاحيين أستغلوه: بائع الأسكريم آذى سكان قرية اللصب وتم منعه ولم يمتثل (خريطة)    عرض سعودي في الصورة.. أسباب انهيار صفقة تدريب أنشيلوتي لمنتخب البرازيل    القلة الصامدة و الكثرة الغثاء !    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ويبقى العظيم رجلاً
نشر في الجمهورية يوم 14 - 03 - 2009

بين حين وآخر، نسمع دعوات هنا وهناك لإعادة كتابة تاريخنا، وتصفيته من تلك الشوائب التي علقت به، على مر العصور، وجعلت الكثير من أحداثه إما مشكوكاً في صحتها،وإما لايقبلها عقل، وإما مفسرة تفسيراً ملتوياً لغرض مذهبي أو أجنبي أو تآمري. والحقيقة أن مثل هذه الدعوات مبررة وتستحق الوقفة والتأمل، فكثير مما يرد في تاريخنا، من أحداث وأشخاص ومواقف، يأباه العقل السليم، ويرفضه منطق الأمور الذي ينطبق على الأولين والآخرين سواء بسواء. وقد انتبه العلامة ابن خلدون إلى مثل هذه المسألة في مقدمته حين استعرض مصنفات المؤرخين السابقين وحلل أسباب ابتعادهم عن رؤية الأمور في وضعها السليم ومنطقها الصحيح، وذلك حين يضفون على التاريخ «أسطرة» معينة لايمكن أن تتماشى مع الحس السليم وسنن المعاش التي لااستثناء لها في السابقين واللاحقين.
ولكن،إذا كانت مثل هذه الدعوات مبررة ومقبولة، إذ إن تاريخنا فعلاً يزخر بكل عجيب وغريب، فإن الغلو فيها والتشكيك بكل ما ورد في هذا التاريخ، سوف يجعلنا في النهاية أمة بلا تاريخ، أو أصحاب تاريخ أسطوري أو مثالي لا علاقة له بالتاريخ الفعلي، الذي منه يمكن استنباط السنن ومسار حياة البشر كما هي لا كما «يحبذ» أن تكون، فعندما تورد أمهات كتب التاريخ لدينا مثلاً أن ظاهرة طبيعية قد تغيرت «مثل حمرة الحيطان وتساقط النجوم بعد مقتل الحسين بن علي رضي الله عنهما»،فذلك من الأساطير التي لايقبلها عقل ولاشرع، إذ إن الله لايغير نواميس الكون وقوانين الحياة، ويختل بذلك كل النظام، من أجل عظيم أو شهيد أو نحو ذلك، وليس في ذلك مايقلل من عظمة العظيم أو الشهيد، ولكن أن يأتي أحدهم فيحاول، بناء على دعوة تصفية التاريخ من الشوائب، أن ينزع العقل والمنطق من التاريخ باسم ذات العقل والمنطق، فذاك أمر لايستقيم.
أن يأتي أحدهم فيقول مثلاً إن قصة عدم مبايعة سعد بن عبادة «رضي الله عنه»،لأبي بكر،«رضي الله عنه» في السقيفة.ليست صحيحة،أو إن أسباب خروج أم المؤمنين عائشة بنت أبي بكر «رضي الله عنهما»،يوم الجمل ليست تلك الأسباب التي يوردها الطبري وابن الأثير وابن كثير وغيرهم،أو إن تلك المراسلات بين علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان «رضي الله عنهما» والتي يقولون فيها لبعضهما البعض ما لم يقله مالك في الخمر،مفبركة ولايمكن أن تصدر عن مثلهما.. أن يقال مثل ذلك،وغيره كثير، يعني في النهاية أننا قد سحبنا بساط البشرية من تاريخنا وجعلناه تاريخاً لاينتمي للبشر، وفي ذلك من المخاطر ما فيه.. مثل هذه العملية الاختزالية للتاريخ، لاتتعارض مع العقل فقط، ولكن مع الطبيعة البشرية التي قبل أن يقول بها عقل،جاءت في كلام الخالق ذاته حيث يقول:« وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لاتعلمون» «البقرة الآية 30» معنى ذلك أن الله سبحانه وتعالى عندما أراد أن يخلق الإنسان، كان يعلم عن طبيعته وماذا سيفعل، وكيف لا وهو الذي خلقه، وكان يعلم أنه سيسفك الدماء ويفعل كذا وكذا، ومع ذلك خلقه، لحكمة يعلمها هو، ولم يكتف بالملائكة الذين لا يعصون ما يؤمرون، فكيف إذن يأتي أحد من خلق الله ويحاول أن «يؤملك» ماهو بشري وأريد له أن يكون ذلك؟
وعندما تنظر إلى القرآن الكريم، فسوف تجد نماذج عديدة لبشرية الإنسان، حتى بين الأنبياء أنفسهم، وهم المعصومون في نقل رسالة الإله، فهاهو آدم، الذي خلقه الله بيده مباشرة، يأكل من الشجرة المحرمة عاصياً أمر الله الواضح:« وقلنا يا آدم أسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغداً حيث شئتما ولاتقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين» «البقرة، الآية35»،«فدلاهما بغرور فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوءا تهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة وناداهما ربهما ألم أنهكما عن تلكما الشجرة وأقل لكما إن الشيطان لكما عدو مبين» «الأعراف ،الآية 22» وهاهو يوسف علية السلام بهم بامرأة العزيز لولا عصمة الله وراودته التي هو في بيتها عن نفسه وغلقت الأبواب وقالت هيت لك قال معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي إنه لايفلح الظالمون،ولقد همّت به وهمّ بها لولا أن رأى برهان ربه كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين» «يوسف، الآيتان 23و24»،وها هو موسى «عليه السلام» يبطش برجل ويهم بآخر:«ودخل المدينة على حين غفلة من أهلها فوجد فيها رجلين يقتتلان هذا من شيعته وهذا من عدوه فاستغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوه فوكزه موسى فقضى عليه قال هذا من عمل الشيطان إنه عدو مضل مبين،قال رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي فغفر له إنه هو الغفور الرحيم» «القصص،الآيتان 15و16».
انظر إلى هذه النماذج البشرية في القرآن الكريم،وغيرها كثير،فستجد أن أشخاصها،رغم أنهم من الأنبياء «سلام الله عليهم»،مليئة بالدوافع والنوازع البشرية التي تجعلهم كأي بشر آخرين لولا عصمة الله لهم، وفي ذلك يخاطب الله سبحانه خاتم الأنبياء والمرسلين، محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم بقوله:« قل إنما أنا بشر مثلكم يوحي إلي أنما إلهكم إله واحد فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً ولايشرك بعبادة ربه أحداً» «الكهف، الآية 110»،«قل إنما أنا بشر مثلكم يوحي إلي أنما إلهكم إله واحد فاستقيموا إليه واستغفروه وويل للمشركين» «فصلت،الآية 6».. ففي قصة آدم «عليه السلام» تجد الفضول البشري بكل معانيه، وفي قصة يوسف «عليه السلام» تجد الرغبة، وفي قصة موسى «عليه السلام» تجد الغضب، وهذه كلها انفعالات بشرية نتيجتها ذات السلوك وذات الأحاسيس في كل ذات بشرية، بما في ذلك الأنبياء لولا عصمة رب العالمين.
فإذا كان الله قد خلق الإنسان بمثل هذه الجبلة، بما في ذلك الأنبياء، فهل يحق لنا،تحت أي دعوى، أي نسلب التاريخ تلك البشرية ونرفع أحداثاً وأشخاصاً إلى مافوق مستوى الأنبياء المعصومين الذين لاتنتفي بشريتهم رغم ذلك؟
بعض دعاة إعادة كتابة التاريخ يريدون أن يفعلوا ذلك حارمين إيانا من معرفة بعض التفاصيل التي من خلالها نستطيع سبر أغوار هذا التاريخ، ومن ثم القدرة على التعامل مع الواقع وسننه بماهو واقع مخلوق ومنظم وله جوهر يمكن إدراكه؛وموقعين إيانا، من ناحية أخرى،في حالة من الاحباط الجماعي والشعور بالنقص والدونية حين يجعلوننا، باختزال التاريخ و«أملأكته»،نحس أن من سبقونا كانوا من جنس غير البشر، لايخطئون ولا يمكن أن يخطئوا وينعكس على سلوكنا سلباً إذ نحاول أن نكون مثلهم، وفق الصورة المختزلة، فلا نستطيع القفز فوق كثير من طبائعنا البشرية وتكون النتيجة أمراضاً نفسية تجعلنا غير قادرين على تمثل الماضي المختزل ولا الحاضر المذموم، ونتحول إلى كائنات غير تاريخية، ومن ليس له تاريخ فهو ليس بإنسان وإن كان ذا شكل إنساني، ونحن لانطمع إلا بإنسانيتن.. والغريب في الأمر أننا ننتقد المسيحيين حين يقدسون بعض الأشخاص «القديسين والرهبان مثلاً» ويجعلونهم في مرتبة فوق البشر، وكذلك اليهود في تعاملهم مع الأحبار، والبعض منا يقوم بذات التصرف وهو غير شاعر، رغم أن نبينا، سيد خلق الله صلى الله عليه وسلم، يقول وبكل وضوح: "أنا بشر مثلكم"، والقارئ لسيرته العطرة يلتمس تلك الدروس التي يقدمها الرسول الأعظم للدلالة على بشريته في كثير من المواقف والأحداث، صلى الله عليه وسلم.
أحداث كثيرة يريد بعض دعاة إعادة كتابة التاريخ محوها من بطون الكتب، التي، ويا للتناقض، تشكل المصادر الرئيسة للتاريخ لهم ولنا، ولكنهم يأخذون منها مايريدون ويتركون مالا يريدون، ومثل هذا المنهج مقبول، كما ورد آنفاً، إذا كان المرفوض لايتماشى مع العقل وسنن الحياة المرئية والمنطبقة على السابق واللاحق، ولكن أن يكون المختزل هو حادثة بشرية يمكن أن تحدث، ولكنها تختزل بناء على منطق أن الفاعل لايمكن أن يفعلها، وفق مستوى تقديسي معين، فإن ذلك لايستقيم، مثال ذلك قصة خالد بن الوليد «رضي الله عنه»، مع مالك بن نويرة، التي وردت في معظم المصادر المعتمدة للتاريخ الإسلامي، مثل تاريخ الطبري وابن الأثير وابن كثير وغيرهم، حين قتل ابن نويرة وبنى بامرأته أم تميم قبل أن يستبرئها، وقد وبّخه عمر بن الخطاب «رضي الله عنه»، وفقاً لرواية ابن الأثير، حين قال له: «أرئاءً قتلت امرأً مسلماً ثم نزوت على امرأته؟ والله لأرجمنك بأحجارك» «الكامل، لابن الأثير، الجزء الثاني، ص 242243»، مثل هذه القصة يريد البعض أن يزيلها من التاريخ جملة وتفصيلاً وفق القول أن خالداً لايمكن أن يقوم بمثل هذا العمل، وهو التقي المجاهد في سبيل الله وسيف الله المسلول.
والمسألة ليست في كون الحادثة صحيحة من عدمها، فهذه مسألة تاريخية بحتة تتقرر وفق مناهج البحث التاريخي، ولكن المسألة في «إمكانية» فعل خالد لها، هل من الممكن أن يفعلها خالد وفق ماتقول به معظم المصادر التاريخية؟ الجواب هو لم لا؟.. أليس خالد من البشر بذات الدوافع والنوازع؟ هل هو أفضل من الأنبياء المعصومين الذين أخطأوا، وفق ماورد في كتاب الله، ثم استغفروا؟ ولو أفترضنا أنه فعلها، وفق معظم المصادر، فهل ذلك يقلل من عظمته أو يجرح تقواه؟ إن كان الجواب بالإيجاب فمعنى ذلك أن تقوى الأنبياء مجروحة، والعياذ بالله، وذلك لايستقيم، وعلى ذلك قس الأمثلة المشابهة.
والقضية تصبح أعوص حين نعرج على السياسة وماحدث في السياسة، فللسياسة أساليبها ودهاليزها التي يعرفها أربابها ويمارسونها، لايختلف في ذلك تاريخنا عن تاريخ غيرنا، إذ إن المسألة موضوعية بحتة مرتبطة بقضية السلطة وكيفية الحصول عليها، وقارن تواريخ الشعوب وسوف تدرك ذلك الخيط الذي ينتظمها كلها، ومن هنا نستطيع أن ندرك مقولة معاوية بن أبي سفيان الشهيرة: «والله لو كان بيني وبين الناس شعرة لما انقطعت...»، وكيف أنه استطاع الوصول إلى الخلافة «السلطة» والانتصار على علي بن أبي طالب وهو من هو في قرابته وسابقته وشجاعته، ولكن المشكلة كانت في أن ابن أبي طالب كان تقياً في ممارسة السياسة، وكان ابن أبي سفيان داهية، فانتصر الدهاء على التقى، رغم أن علياً كان قادراً على الدهاء، ولكن الورع منعه فخسر الدنيا، «رضي الله على الجميع».
ولو قارنت كتباً مثل (الأمير) لمكيافيلي، و(دليل الرجل السياسي) للكاردينال، لاحظ الكاردينال، جول مازارين، و(سياست نامة) لنظام الملك، و(نصيحة الملوك) للماوردي، و(رسالة الصحابة) لابن المقفع، لوجدت أنها في جوهرها تدور حول نفس الموضوع وحول نفس الأساليب، ألا وهي كيفية الوصول إلى السلطة وكيفية المحافظة عليها.
وكل مؤسسي الدول في التاريخ البشري، عدا الأنبياء طبعاً، ماكانوا ليستطيعوا تأسيس تلك الدول إلا بأساليب زخرت بها الكتب السالفة وغيرها، وإن لم يعترفوا بذلك علناً، إذ إن عدم الاعتراف جزء من ممارسة السياسة، انظر بموضوعية إلى تاريخنا مثلاً فستجد مصداق ذلك في سيرة معاوية «المؤسس الأول للدولة الأموية»، وسيرة عبدالملك بن مروان «المؤسس الثاني»، والسفاح «المؤسس الأول للدولة العباسية»، وأبي جعفر المنصور «المؤسس الثاني»، وغيرهم في الشرق والغرب.
المشكلة ليست في ذلك، فالدراسة الموضوعية للسياسة تثبت هذه المسألة، ولكن المشكلة هي في أولئك الذين يحاولون اختزال التاريخ عن طريق نفي وإلغاء أحداث ومواقف، لا لأنها مستحيلة الحدوث عقلاً وواقعاً، ولكن لأنها صادرة عن أشخاص يفترض فيهم «الملائكية» وبالتالي لايمكن أن يمارسوا ما مارسوا، رغم أن منطق الأحداث في التاريخ البشري كله يقول إن أساليب معينة مورست، ويجب أن تمارس إذا أريد النجاح في هذا المجال، من ذلك أن الكثيرين يخلطون بين تقوى المؤسس أو الحاكم وممارسة السياسة، فيفترضون أن الذين أفاضت كتب التاريخ في تقواهم لايمكن أن تصدر عنهم أعمال بعينها ذكرتها ذات الكتب التي تحدثت عن مناقبهم وخصالهم:
غير مدركين أن للسياسة منطقها الذي قد لايتماهى مع منطق المناقب الشخصية، من ذلك مثلاً أن البعض يستبعد أن يكون هدف معاوية من طلب القصاص لقتلة عثمان بن عفان «رضي الله عنه»، أو رفع المصاحف في صفين هو السلطة، بل الدافع هو الحق المجرد، رغم أن مسار الأحداث والمواقف يبين أن السلطة هي الغاية، وللوصول إلى هذه الغاية لابد من ممارسات قد تتعارض مع المناقب الشخصية لممارسها، ولكن القضية واضحة، إما أن تقوم الشخصية بعمل ما لا قيام للأمر إلا به، وإن تعارض مع سجايا معينة، أو لاتفعل ذلك نتيجة موقف أخلاقي أو ترفع أو نحو ذلك، فتخسر الأمر، هذه هي السياسة، سواء أحببناها أو كرهناها.
ونفس الشيء يمكن أن يقال حول تلك الحادثة المروية في كتب التاريخ عن عبدالملك بن مروان، والتي فحواها أنه حين آلت إليه الخلافة، كان يتلو كتاب الله، فأطبقه وهو يقول:«هذا آخر العهد بك»، البعض يستنكر مثل هذا التصرف من عبدالملك بن مروان استناداً إلى تقوى الرجل وفقهه، وهو كذلك، ولكن يمكن حل اللغز كالتالي: إذا كان عبدالملك فقيهاً فقد كان داهية أيضاً ومؤسس دولة من الطراز الأول، وعلى ذلك فقد أدرك حين آلت إليه الخلافة، في مثل تلك الظروف القاسية وعدم الاستقرار «فحركات التمرد في كل مكان، وعبدالله بن الزبير هو الخليفة الفعلي في الحجاز والعراق، والخارجون على بني أمية أكثر من المنضوين في ظلهم» إنه أمام خيارين لاثالث لهما: إما أن يرفض السلطة جملة وتفصيلاً، ويتفرغ لفقهه وعبادته، كما فعل عبدالله بن عمر مثلاً «رضي الله عنهما»، أو أن يقبل ويمارس ما قد لايتوافق مع التقي التام في مثل تلك الظروف إذا كانت الخلافة هي الثمرة، فاختار الخيار الثاني، ومجازر الحجاج في العراق، وغير ذلك؟ كان لجوء ابن الزبير إلى الكعبة سياسة ودهاء، وكان ضرب الحجاج لها بأمر ابن مروان سياسة أيضاً، كان لابد منها لمقابلة دهاء ابن الزبير، والمسألة لاتحتاج إلى تفكير وتردد لأن الغنيمة هي الخلافة ذاتها، وهنالك حادثة يمكن أن تلخص مانرمي إليه، فقد ورد في البداية والنهاية لابن كثير أنه حين جيء برأس مصعب بن الزبير ووضع بين يدي عبدالملك بن مروان قال: «لقد كان بيني وبين مصعب صحبة قديمة، وكان من أحب الناس إلي، ولكن هذا الملك عقيم»، وبمثل هذا المنطق السياسي، نستطيع تفسير كثير من الأمور في تاريخنا بموضوعية، والتي تربكنا أكثر الأحيان حين لانستطيع التفرقة بين المناقب الشخصية للعظيم والضرورات الموضوعية لتحقيق هدف عظيم معين، غير غافلين عن الدوافع والنزعات البشرية التي تبقى كامنة في النفوس مهما كانت المناقب، فهم بشر أولاً وأخيراً.
خلاصة الحديث هي أن «الأسطرة» «من أسطورة» و«الأملكة» «من ملائكة» كلتيهما تشويه للتاريخ وإبعاد له عن حقيقة التاريخ، فإذا كنا فعلاً نسعى إلى إعادة كتابة التاريخ، فليكن ذلك بعيداً عن هذين القطبين، ونحن في ذلك لسنا إلا مكررين لما قاله ابن خلدون قبل مئات السنين، ناهيك عن المناهج الحديثة التي نقلت القوم إلى حيث هم، وبقينا نحن ندور في الساقية دون ماء.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.