حين تصبح أقلامنا هي وسيلة الدفاع الوحيدة أمام وحوش الروح، وحروفنا قنابل موقوتة تنتظر لحظة الإفراج عن قراصنة الأجساد الخاوية.. وأفكارنا ألغاماً مزروعة على صفحة القهر تنتظر وطئ أقدام الظلم عليها لتمزقه وتمضي حافيةً من استغلال البشر وسطوة الطغاة وبطش الجبابرة. عندما نفتقد النطق بالحكم وتتوه عن شفاهنا الحروف ونعجز عن السيطرة على إحساسنا بالقهر فتصبح أيادينا البيضاء الناعمة مغموسةً بالذُّل.. وأجسادنا المخبأة خلف أوراق التوت ليست إلا مقبرة للعفة التي هي لغةٌ للحب لكن بلا حروف. عندما نصبحُ أشبه بحبات المطر مهما كانت عالية لا بد أن تسقط ومهما بلغت من الطُهر لا بد أن تُداس تحت الأقدام.. عندما تصبح كُل ذكرياتنا العتيقة حاضرنا الراهن، ويصبح مستقبلنا المجهول هو أمسنا الغائب، عندما تلقمنا الأيام فضلات الحاجة ويتبول على رؤوسنا الحاضر والغائب وبعدد ذرات الجسد نُسقى المرارة عطشى.. عندما نكبّلُ ونحنُ أحرار، لكن لم نعرف طعم الحرية.. غائبون عن عالمنا خلف جدران العطاء الذي لم نر لهُ مقابلاً.. عندما يئن كل ما فينا ولا نسمع.. يصرخ على رؤوسنا اليأس ولا نركع.. نُمرّغُ في وحل عتيق الحُجج ولا نشبع.. ونفقدُ كل ما نجمع.. عندما نصبح قالباً للنهم.. يأكلُ جيوبنا ويفتش جدران قلوبنا ويفرض الحصار على أنفاسنا ويبقينا قياماً على أطراف القدم. ثم يعلن عن صواع الملك.. عندما نصبح بين يدي الغرابة تشكلُ أنوفنا جبالاً وشفاهنا آباراً.. وأعيننا قبوراً.. وأيدينا أشجار نخيل بلا رُطب.. وتصبح أجسادنا لوحات لفنان مجهول بلا هوية اسمه الغضب.. عندما تعترينا حُمّى المواجهة فنحطم أقفاص صدورنا ونلعن ضحكاتنا ونبصق في وجه الحياة زئير غبائنا ثم نكتشف فجأة أننا لم نكن نقف إلا أمام مرآة الروح. فنصمت عن الكلام اللذيذ الذي نحبه لنسمع صوت الحزن الذي نكره.. عندما تتبدل طقوس سمائنا فتصبح همساتنا عواصف، وأروع ما نملكه صحارٍ وقفار.. وأثمن ما نخبئه دهاليز خاوية من الروح.. عندما تصبح أفواهنا بيوت أشباح، وأحداقنا مغارات بلا كنوز.. وذلك الذي يخفق في صدورنا مجرد سلة مهملات قديمة.. عندما نقفز من الفرحة فنقع في حفرة الحزن.. وتخضب حروفنا بالوقار ونحنُ عرايا خلف عيون البشر.. عندما لا يهزنا وجد.. ولا يصدقنا وعد ولا ندري يوماً من غد.. عندما نتطاير مثل ريش الطيور ونستلقي على صفحات الماء مثل حوريات البحور.. ونكتب عمراً في سطور. عندما نصبح مثل أعشاب البراري رؤوسها دواء وسوقها داء.. عندما نصاب بأنفلونزا الخوف وترتعش أجسادنا من البرد والحُمى.. ولا ندري إلا عندما.. لمّا.. عندما نرضى ولا نرضى.. نشتاقُ للصبر.. نحنُّ للصمت الذي لا يحرمنا متعة الكلام مع السحاب. عندما نغرق في أمواج الهواء.. تجتاحنا تيارات الضباب ويحولُ بين ما نشتهي وبيننا أننا هنا.. عندما نغادرُ مكاتب الروح لنتكئ على وسائد الجسد.. ثم يُعلن الموت نهاية المطاف دون أن نصل، حين يُصير قريبنا بعيداً.. وأرق مانقول وعيداً.. حين نكون صغاراً مثل حبات اللؤلؤ لكن على صدر فاجرة.. حين نحاول ونحاول حتى لا نقع عن ظهر الحياة فتصيبنا قذارة الانهزام ونعلن عن وصول الراية.. عندما يحدث كل ذلك ويصير.. ارغموا أنوفكم على الصعود حتى لا تصبح وجوهكم محابر.