لماذا يكذب الناس وهم يعلمون أن الكذب منقصة؟ لماذا يكذبون والكذب مذموم في القرآن والسنة وفي كل المذاهب والنِّحل والأديان؟ ليس مثل الكذب داء وليس مثل الكذب كارثة تحلّ بالأفراد والأسر والجماعات والدول. فلولا الكذب ماتعرض الموظف للفصل من وظيفته، ولولا الكذب ماتركت المرأة في بيت زوجها ولا طلق الرجل زوجته، لولا الكذب ماازدحمت المحاكم بالمتشاكين والمتظالمين، لولا الكذب ماراجت أسواق شهادات الزور ولما ارتفعت الأسعار ولما غش السماك زبائنه وخدع اللحام أصحابه واستغفل بائعو الطماطم والأدوات والسلع المستوردة من المعامل فوق السطوح في الهند وشرق آسيا، مااستغفلوا زبائنهم في بيعهم بضائع مغشوشة رديئة ومعطوبة. يولد الإنسان وضميره نقي ونفسه سوية فما الذي يحدث لضميره ونفسه أثناء مرحلة النمو..؟ في غياب الصدق يتشوه كل شيء في الإنسان.. عقله وتفكيرة إلا في غياب الأخرى.. فكيف يبدأ الكذب ؟ أين منشأه في البيت؟ أم في المدرسة؟ أم في الشارع؟ ولماذا لايعمد المجتمع على تحصين أبنائه من الكذب عن طريق سد كل منابع الكذب في سلوك الأسر والمعلمين وموظفي الدولة والمسؤولين.. فإذا كف موظفو الدولة والمسؤولون في المواقع المختلفة عن الكذب والنفاق جفت المنابع العليا للكذب وبدأ الناس يتعلمون فضيلة الصدق وينشئون عليها أولادهم وبناتهم على النحو الذي نشير إليه في هذه العجالة. أين يتعلم الأبناء فضيلة الصدق؟ هل يتعلمون الصدق في البيت؟ أم في المدرسة؟ أم في الأسواق؟ إذا كان قاموس الصدق لم يعد له وجود إلا في حوزة عدد قليل من الأمهات الفاضلات والعدد القليل من الرجال الممتازين.. فإن العدد الكبير من الأمهات والآباء صاروا يتعاملون مع أبنائهم وبناتهم بصورة سافرة واضحة بما يؤكد أنهم يكذبون في أقوالهم وأفعالهم ويجعلون من أبنائهم وبناتهم رسل الكذب المتواصل في علاقتهم بالآخرين وفي علاقة أفراد الأسرة بعضهم ببعض.. هذا الأب يوجه ابنه أو ابنته ليكذبوا على السائل في الهاتف أن الأب غير موجود في البيت أو أنه مريض على الفراش بينما يكون في غير الفراش، يوجه أبناءه بأن البضاعة قد نفدت من الدكان، بينما هم يعلمون أن المخازن مملوءة بالبضاعة.. يوجه أبناءه أن يتصلوا بمقر عمل والدهم أنه يعاني من الحمى والصداع وألم المفاصل وهم يعلمون أنه يقضي وقتاً ممتعاً مع أصدقائه في رحلة بحرية أو غيرها.. يتصل الوالد يخبر مدير المدرسة أن ولده «فلان» على الفراش بينما يكون الأب قد أوكل للابن مهمة سخيفة لايتعلم منها«الولد» سوى أن يعتاد على الانفلات وتزييف الحقائق.. عشرات من المواقف الغبية واللامسؤولة يرتكبها الآباء في حق أبنائهم كلها تصب في مجاري الكذب التي تتحول إلى عروق يسري فيها الكذب كما يجري الدم في العروق، وكذلك الأم.. تمارس ماهو أشد وأنكى.. اخبروا أباكم بكذا وهم يعلمون أنها تكذب.. أخبروا جارتنا بكذا وهم يعلمون أنها تكذب.. لقد فقد الأب قاموس الصدق وربما نقول إنه في الأساس لم يحصل منذ البداية إلا على قاموس الكذب، فهو شأنه شأن زوجته التي فقدت قاموس الصدق قبل أن تزف إلى عريسها بعدد السنين التي عاشتها طفلة في دار أهلها ثم وهي فتاة تختلف إلى مدرستها.. لقد رضعت ثقافة الكذب مع قطرات حليب الأم منذ أن كانت رضيعة، تسمع أمها تمارس عادة الكذب على بقية إخوانها وأخواتها.. وهي تصرخ بهذا وتهدد ذاك وتوعد هذا وتتوعد ذاك..كانت ترى أباها لايختلف عن أمها في أنهم يقولون شيئاً ويفعلون شيئاً آخر.تسمع وترى إخوانها يكذبون في لعبهم وفي شجارهم وفي شكواهم، يكذبون في غضبهم وفي مرحهم.. فإذا رأيتم أو سمعتم عن موظفين يكذبون فذلك لأنهم قد تربوا على الكذب وليس فقط لأنهم يغطوا فشلهم وبلادتهم وقصور فهمهم عن فهم وظيفة وصلوا إليها من غير كفاءة ولاخبرة.