من أغانينا مايعبر عن الفن والذوق الرفيع في الكلمات واللحن والأداء، ومنها مايعبر عن اعتلال المزاج وعسر الهضم وآلام البواسير وبعضها يعبر عن شدة الكرب وضيق الحال وكثرة العويل وقلة الزاد في حين يظن المطرب صاحب التسجيل «أشرطة الكاسيت» أنه قد أتحف مستمعيه بدرر من ألوان الطرب وأمتعهم بشذرات من الأنغام الشجية حسب اعتقاده، وكذلك هم «المطربون».. الذين يوكل إليهم إحياء حفلات عرس «حية» مباشرة على الهواء.. فإنهم يتغلبون على «شحشحة» أصواتهم وعيوب حناجرهم بأن يرفعوا أصواتهم إلى أعلى قدر ماتستطيعه تلك الحناجر المكدودة حيث الدخان يتربص بها من جهة و«عجينة» القات تضيق عليها الخناق من جهة أخرى..!! نستمع إلى هذه الأغاني في مواسم الأفراح التي تعقب في العادة الأعياد الدينية أو تتزامن معها.. نستمع إلى الأغنية من تلك، فلا نفهم من كلماتها شيئاً، فهي تصل إلى أسماعنا مشوشة، متقطعة منتوفة الريش أو مجزأة الأوصال.. فلايبقى من هيكلها أو بنائها سوى الصوت أو «الصراخ» أو مايسمونه «لحناً» على سبيل المجاز.. فإذا وصلك هذا الكيان الهش المتبقي من الأغنية، فأنت لاتستطيع أن تميز على وجه التحديد إذا كنت تسمع أغنية حزينة تعبر عن نعي لوفاة أحد الأحباب.. فأنت تسمع صوت المطرب يخرج حزينا متهدجاً، كما لوكان يلح عليك أن تحضر المأتم لتقديم العزاء لأهل الفقيد الغالي. أو كأنك تسمع أغنية حزينة من تلك الأغاني التي يطلقها الرعيان وهم يعبرون عن مشاعر الحرمان.. فلاحبيب يرجون وصوله أو وصاله ولاقريب يرجون وده ولاحياة تبشر بانفراج، ولا أمل في عيشة هنيئة. كنت ذات يوم في زيارة لأحد أقاربي الذي لم أره منذ فترة طويلة فهو يعيش في حي يبعد عن مكان سكناي مسافة لاتصلح أن تكون مبرراً للقطيعة بيننا عاماً كاملاً، مررت بدار مفتوح لاستقبال وافدين إليه على نحو متواصل وكانت الميكرفونات تزمجر بصوت حزين لكنه صاخب قد أبكى المطرب نفسه، وبقى يحث الآخرين على البكاء «مجابرة».. حاولت الابتعاد حتى لاتغشاني موجة حزن من غير داع.. لكنني قبل أن أفعل ذلك فوجئت بصديق قديم كان ضمن المستقبلين يمسك بي فانشغلنا بالسلام والعناق وتبادل كلمات المجاملة عن معرفة سبب الاحتفال فذهب ظن أنه حفل عرس، لولا هذا الصوت الحزين الذي يطل علينا من فوق السقوف من كل الاتجاهات، وعندما اقتربت من المكان سمعت زغاريد النساء تختلط بأصوات بكاء ونشيج حزين، فزاد ذلك من ارتباكي وحيرتي.. فماذا يحسن بي أن أقول؟! هل أقول: عظّم الله لكم الأجر.. لله ما أعطى ولله ما أخذ هكذا حال الدنيا.. أم أقول: بارك الله لكم في أفراحكم؟ قلت في نفسي مادام صديقي لم يخبرني عن المناسبة، فسوف أكتشفها بنفسي، فلابد أن أوازن بين مختلف الحركات.. فهناك أغان حزينة وهناك بكاء حزين وهناك زغاريد متواصلة.. فلابد أن أستعمل فطنتي في معرفة المناسبة من المشاهدات أمامي. شاهدت أناساً تزدحم بهم الغرف وتضيق بهم الأروقة بينما الدخان «يعكي» قد أحال الوجوه إلى أشباح وجعل الرؤية ضبابية وسلم الجميع زمام أمرهم لمشاعر أغنيات حزينة، أخذت تعبث بعواطفهم، فأخذت أجسادهم ترتعش ورقابهم تهتز من شدة التأثر.. فلم أتبين على وجه الدقة ملامحهم، فبدت لي ملامح وسط بين الضحك والبكاء وبين المرح والحزن. فماذا يتوجب علي أن أصنع؟ أن أضحك؟ أم أبكي؟.. أن أبتسم أم أتجهم؟ كنت مضطراً أن أسأل صديقي: ماهي المناسبة؟ قال: غير معقول أن لاتكون قد فهمت؟ قلت: من شدة غبائي.. قال: هذا «فرح» إنه حفل عرس.. سألته: وماذا عن البكاء الحزين؟ قال: أم تبكي فراق ابنتها؟! والأغاني أنت وحظك مرة تطلع أغنية حزينة ومرة مرحة.. هكذا حسب الحظ!! ولكن ما الذي يضطركم إلى الخلط بين المشاعر المختلفة والمتناقضة؟! قال: بالله عليك ياصديقي العزيز خليها مستورة ولاتنكئ الجراح، فليس هناك فرق لأن هؤلاء الغارقين بين الدخان وهموم الحياة بين أغنية وأغنية أو بين لحن ولحن.. إنهم يصفقون لكل صوت المهم أن يكون صوتاً ملحناً يشير إلى أي معنى أو حتى لايشير لأي معنى.. خليها مستورة ياصديقي «سالم» هل تريد أن تشاهد ماهو أعجب من العجب.. سأجعل المطرب يلحن أمامك هذه الجملة ثم يغنيها: «والله إن ما وريتك أنا ياسالم.. ماكنت صاحبك الملاكم»... سوف تجدهم يشتعلون حماساً وإعجاباً ويطرون الكاتب والملحن والمطرب أشد الإطراء. قلت له: ولكننا نمسخ بذلك ثقافة أجيالنا ونعرض ذوقهم للضياع ودنياهم للتفاهة. قال: هل وجدتهم غير ضائعين في التعليم والتربية والمعيشة؟ أرجوك خليها «مستورة».