يطال الحديث الشاعرة المطبوعة الخنساء بنت عمرو التي عاشت الجاهلية والإسلام، وعرفت عند العرب بقوة الشخصية وحرية الرأي والاعتداد بالنفس والأهلين، وقد ورثت عن جاهلية العرب نزعة الفروسية والانتماء للعشيرة حتى أنها رفضت الزواج من «دريد بن الصمت» بالرغم من كونه أحد فرسان العرب الموصوفين. وبدلاً منه فضلت الزواج مرتين من أبناء عمومتها في تأكيد آخر على الانتماء العائلي العشائري الذي تعتبره قدس أقداس البنية الاجتماعية . في المرة الأولى تزوجت ابن عمها «راوحة بن عبد العزيز السلمي» وأنجبت له ولداً، وفي المرة الثانية تزوجت ابن عمها الآخر« مرداس بن أبي عامر السلمي» وأنجبت له أربعة أولاد، وكان طلاقها الأول من راوحة يومئ إلى قوة شخصيتها، فقد قررت التباعد عنه حال علمها بإدمانه القمار، وتعامله العبثي مع المال. هكذا ورثت الخنساء سمات مُجيرة على النزعة البطولية الموصولة بقدر كبير من الاعتداد بالنفس والأقربين، لكنها وبعد أن أسْلمت وحسن تدينها وتماهيها الإيجابي مع الرسالة تغيرت جذرياً حتى إنها رافقت أولادها الأربعة إلى معركة القادسية الكبرى، ولقد أوصتهم بالقتال الشريف، وخوض الحرب بروحية استشهادية، وهذا ما كان، فقد استشهد أولادها الأربعة يزيد ومعاوية وعمرو وعمرة في معركة القادسية، لكن الخنساء لم تجزع وتحزن كما حدث مع مقتل أخيها صخر وإصابة أخيها معاوية، مما يدل على إيمانهاالعميق ، وأن الموت في ساحة الوغى دفاعاً عن الدين يختلف جوهرياً عن الموت العدمي المجاني الذي كان يحدث قبل الإسلام. قالت في أخيها صخر شعراً كثيراً، وارتقت في كلماتها إلى ذُرى الإبداع الشعري الاستثناء حتى إن بشار بن برد والنابغة الذبياني شهدا لها، ومما قالته في رثاء صخر : يذكرني طلوع الشمس صخراً وأذكره لكل غروب شمس ولولا كثرة الباكين حولي على قتلاهمُ لقتلت نفسي لقد قيل عن الخنساء إنها أشعر البكّائين، وأكثر الحزانى على إخوتها المقتولين، واشتهر عنها قولها : صخراً جمرُ الكبد، ومعاوية سقام الجسد، وليس غريباً والأمر كذلك أن تصف قتلاها بما يليق بنزعتها الدهرية الجاهلية السابقة على تدينها وإيمانها، وأن يختلف موقفها في استشهاد أبنائها الأربعة. نعم .. لقد احترق كبدها وسقم جسدها فبكت أخاها صخراً حتى فقدت الرؤية وأُصيبت بالعمى!!.