تعرضت اليمن عبر التاريخ لكثير من الغزوات كان أكثرها شراسة الاحتلال الفارسي الذي استمر حتى دخل الإسلام إلى اليمن.. كان على الوطن المكفن حياً بأكفان المأساة المتجددة أن يظل يحلم طوال تلك الفترة المظلمة باستعادة هويته، ولكن الحلم لا يتحول إلى واقع مالم يصح الناس من سباتهم. ومع مجيء الثورة الإيرانية والتي أسمت نفسها ب«الثورة الاسلامية» وهو شعار كان يخفي وراءه حاجة إيران المعاصرة إلى بعث المجد الفارسي القديم. إذ سرعان ما انكشف الغطاء الإسلامي عن دولة ذات قوة نافية للاستقرار، غايتها تأسيس امبراطورية إقليمية بآليات التوسع على حساب دول المحيط، وليست الجزر الإماراتية عنا ببعيدة؛ وكذلك فرض هيمنتها على لبنان من خلال "حزب الله" ومحاولة استقطاب حركة حماس والسعي إلى استعادة اليمن وجعلها في الفلك الامبراطوري الفارسي الجديد من خلال الصبية الحوثيين الذين اعتقدوا أن بمقدورهم تدمير الدولة ومؤسساتها وقلب نظام الحكم تحت شعار (الموت لأمريكا، الموت لاسرائيل). إن ما قام به الحوثيون أثبت للشعب اليمني بما لا يدع مجالاً للشك أن أمنه واستقراره مرتبطان بترسيخ الولاء للدولة وللوطن قبل أي ولاء آخر، فالولاء للوطن هو القلعة الحصينة التي تتحطم أهداف الأعداء على أحجارها الصلبة. أما ما يتعلق بالوحدة الوطنية ووحدة المجتمع، فالمسئولية لا تقع على الخارج بمفرده ولا في الحركات السلفية وإنما تقع على الأحزاب السياسية المتصارعة، وهي جميعاً تتساوى في المسئولية عن هذا التقزيم لمشروع الوحدة والولاء الوطني، لقد أجهزت هذه الأحزاب على فكرة الوحدة الوطنية، وقادت إلى تدمير الولاء الوطني تحت ذريعة الشراكة في الوحدة. لقد مارست هذه الأحزاب سياسات خاطئة، أو لنقل إنها مارست السياسة عن طريق نقيضها، آخذة بوسائل العنف وعدم الاعتراف المتبادل بما أسس لتدمير شروط الولاء الوطني. هذه الممارسات هي التعبير الأدق عن القيم التقليدية المتخلفة التي تقول بالشراكة وإلى الأبد، وتختصر الوحدة بمدى وجود هذا الحزب أو ذاك في السلطة، ونحن نلمس فارقاً كبيراً بين وجود حزبي الإصلاح والاشتراكي في السلطة ووجودهما خارجها، لقد تولدت من ممارسة هذه الأحزاب ظواهر سياسية واجتماعية من نوع ما نشهده في أيامنا هذه في صعدة وبعض المناطق الجنوبية، وأدّى العجز المتراكم إلى تراجع دور المجتمع المدني والدولة، وأصبح المجتمع كله أسير ثقافة العنف، وهي أزمة بنيوية - إذا صح التعبير والتفسير - أزمة هي الشكل الراهن لوضع الأحزاب في وقتنا الراهن. إن الأزمة التي يمر بها المجتمع اليمني لا تحتاج إلى تفسير، واستمرارها سيفضي تاريخياً ومنطقياً إلى سيرورة بطيئة من التفكك والانحلال، بدأت مظاهرها تتجلى من خلال الجماعات الدينية والمذهبية والمناطقية والقبائلية، أي في كل ما يبدد معنى الوطن والمجتمع. ها نحن اليوم أمام استعمالات دينية لهدف أغراض سياسية وإنتاج كتل عمياء مسلوبة الإرادة تسير إلى حيث يراد لها ويقرر عنها من دون أن تدرك أنها معنية بالمشاركة في كل ما يتصل بالوطن والدفاع عنه. ولا أغالي إذا قلت إن هذه الأحزاب لا تريد شعباً وإنما تريد رعايا، والرعايا كما نعلم لا تعترف بالآخر وإنما تعترف بسيدها فقط، وهذا ما نلمسه اليوم من بعض الزعامات الدينية التي تتواجد على رأس جمعية العلماء وعلى رأس جماعة المشايخ والقبائل، وهي تؤثم المعرفة، وتجعل من العلوم زندقة، وترفض النقد والحوار والاختلاف، وإذا ما قارنا بين أحزاب اللقاء المشترك فسنجد أنها كلها ماضوية، فهي تبحث في ماضي الماركسية أو الناصرية أو الدينية أو الإمامية، وترفض الانتقال إلى فكر آخر جديد معاصر. والحقيقة أن هذه الأحزاب عاجزة عن تقديم الجواب عن الأسئلة التي يطرحها الوطن البائس.. هذه الأحزاب تضيف إلى بؤس الراهن بؤساً جديداً، لأنها وبسبب غياب وعيها التاريخي، عاجزة عن قراءة الماضي والحاضر معاً. وما هذه الزوبعة المفتعلة حول التدخل الخارجي المزعوم إلا اختراع لعدو محتمل وتصور عشوائي للعالم، وتلك التصريحات العنترية المتمثلة بالجهاد تؤكد الهوية السكونية المغلقة، هوية المهزوم الذي يقاتل من أجل تأبيد هزيمته وتحصينها، وبسبب هذه الهزيمة يظل تحرير فلسطين شعاراً موسمياً فارغاً رفعته الأحزاب القومية والإسلامية وحركة طالبان والقاعدة، ويبقى حصار الشعب الفلسطيني هو الأقوى. والسؤال الذي يطرح نفسه هو: كيف يمكن توليد السياسة في فضاء اجتماعي مقموع يقع بين سلطات قبلية قامعة، وبدائل أيديولوجية تعيد إنتاج القمع..؟!. وسؤال آخر: كيف نحافظ على وحدة الوطن والمجتمع في ظل وضع سياسي واقتصادي فقير ووضع ثقافي يتحرك بين أيديولوجيات مزورة تدور حول التحليل والتحريم والتكفير والتخوين؟!. وكيف يمكن لنا الحديث عن الديمقراطية في مجتمع أضافت أحزابه إلى الموروث العثماني كل تقنيات التجهيل، وكيف يمكن صناعة المجتمع المدني في مجتمع أتقن صناعة الجماعة المتجانسة..؟!، وأخيراً إن الحوار بعيداً عن كل الأطراف يمثل طعنة في صميم الوحدة الوطنية الراسخة التي لا تحكمها سوى قدرة الدولة اليمنية على تأكيد التزامها بالدستور واحترام القانون وثقة المجتمع في عدالة القضاء الذي يحرس ويحمي هذا القانون. وعلينا أن نغلق الأبواب والنوافذ في وجه كل من يريد أن يدس أنفه في الشأن الداخلي اليمني، ونفتح الأبواب والنوافذ للحب والتسامح الذي يحتاجه الوطن في مرحلة بالغة الخطورة!.