جاء الربيع العربي إلى اليمن بغتة ولكن بعد تراكمات طويلة وغير منظورة تحولت فجأة إلى زلزال..فعلى مدى نحو عام مارس شباب وشابات اليمن النضال المدني السلمي الديمقراطي وقدموا مئات الشهداء وآلاف الجرحى في صحوة أخلاقية وسياسية لا نظير لها في تاريخ اليمن.. وقد استطاعوا بصمودهم الأسطوري في وجه آلة القتل أن يطووا صفحة ثلاثة وثلاثين عاما من ثقافة الخوف والخنوع والنفاق وأقنعوا الأشقاء في الإقليم والأصدقاء في العالم بأن الحال لا يمكن أن يبقى على ما هو عليه..وعلى هذا الأساس جاءت المبادرة الخليجية ومن ورائها إرادة دولية تدفع باتجاه التسوية السياسية وقطع الطريق على خيار العنف..ثم جاءت آليتها التنفيذية كإسهام دولي لإخراج المبادرة، بعد تعديلاتها المختلفة، من حالة الإنسداد والإعاقة وتحويلها إلى مادة قابلة للتعامل والتنفيذ. لقد ألزمت الآلية التنفيذية طرفي التسوية على “ الاعتراف بالمأزق الذي وصلت إليه عملية الانتقال السياسي في البلاد وما ترتب على ذلك من تدهور شديد للأوضاع السياسية والاقتصادية والإنسانية والأمنية، فيما يعاني الشعب اليمني من مصاعب جمة “..ونصت صراحة أن هذه الأوضاع “ تتطلب وفاء جميع الأطراف السياسية بمسئولياتها تجاه الشعب، عبر التنفيذ الفوري لمسار واضح للإنتقال إلى حكم ديمقراطي رشيد “. كما نصت على فترة انتقالية من مرحلتين مدة المرحلة الثانية سنتان تبدأ بانتخابات رئاسية مبكرة في 21 فبراير 2012 وتنتهي بوضع دستور جديد للبلاد وإجراء انتخابات برلمانية ورئاسية جديدة في ظل الدستور الجديد وعلى أساسه.على أن يدعو الرئيس الانتقالي وحكومة الوفاق الوطني خلال المرحلة الانتقالية الثانية إلى عقد مؤتمر حوار وطني شامل يبحث فيما يلي: 1 – صياغة دستور جديد للبلاد. 2 – معالجة هيكل الدولة والنظام السياسي واقتراح التعديلات الدستورية إلى الشعب اليمني للاستفتاء عليها. 3 – حل القضية الجنوبية حلا عادلا يحفظ لليمن وحدته واستقراره وأمنه. 4 – النظر في القضايا المختلفة ذات البعد الوطني ومن ضمنها أسباب التوتر في صعدة. 5 – اتخاذ خطوات للمضي قدما نحو بناء نظام ديمقراطي كامل بما في ذلك إصلاح الخدمة المدنية والقضاء والإدارة المحلية. 6 – اتخاذ خطوات ترمي إلى تحقيق المصالحة الوطنية والعدالة الانتقالية والتدابير اللازمة لضمان عدم حدوث إنتهاكات لحقوق الإنسان والقانون الإنساني مستقبلا. 7 – اتخاذ الوسائل القانونية وغيرها من الوسائل التي من شأنها تعزيز حماية الفئات الضعيفة وحقوقها، بما في ذلك الأطفال، والنهوض بالمرأة. 8 – الإسهام في تحديد أولويات برامج التعمير والتنمية الاقتصادية والاجتماعية المستدامة لتوفير فرص عمل وخدمات اقتصادية واجتماعية وثقافية أفضل للجميع. إن القضايا المذكورة – ومن ضمنها إعادة هيكلة الجيش- هي برنامج الفترة الانتقالية والملاحظ أن هذا البرنامج استوعب البرامج السياسية التي أنتجها اليمنيون منذ أربعينيات القرن الماضي وتجاوزها إلى الديمقراطية الكاملة..ومستقبل اليمن مرهون بنجاح اليمنيين في التوافق على تفاصيل بنوده وتحويلها إلى مهام عملية قابلة للتنفيذ والقياس..ما لم فإن عملية الانتقال من الحكم السلطوي إلى الدولة المدنية والحكم الديمقراطي الرشيد ستكون ضعيفة وغير حاسمة، الأمر الذي سيفتح الطريق لنشوء نظام سلطوي آخر يهدد التنمية والأمن والاستقرار والوحدة الوطنية للبلاد. لقد اتسمت الآلية التنفيذية للمبادرة الخليجية بالحياد تجاه الفرقاء السياسيين في اليمن..ومن بين مظاهر هذا الحياد أن بنود برنامج الفترة الانتقالية وردت فيها بصياغات عمومية مقبولة من الجميع، وأن الدعوة إلى مؤتمر الحوار الوطني شملت كل القوى والفعاليات السياسية بما فيها الشباب والحراك الجنوبي والحوثيون وسائر الأحزاب وممثلون عن المجتمع المدني والقطاع النسائي..ومعنى ذلك أنها وضعت كل الأطراف أمام مسئولية تاريخية وتركت لهم حرية تأويل وتفسير بنود البرنامج الانتقالي إما بروح التوافق والتنازل المتبادل من أجل العام المشترك أو بروح الخلاف والتمترس وراء المواقف الجاهزة والمصالح الخاصة..وهناك مؤشرات مبكرة على بروز روح الخلاف والتمترس من شأنها أن توحي لرعاة التسوية، وبخاصة الدوليين، بأن اليمنيين غير مؤهلين بعد للسير معا من أجل بناء الدولة المدنية وتحقيق الحكم الديمقراطي الرشيد..وفيما يلي إشارة إلى بعض مؤشرات هذا التمترس: 1 - إستمرار البعض في الحديث عن مسار ثوري مستقل كليا عن المسار السياسي والقول بأن المسار السياسي اختطف الثورة..وهذا لا يعني من الناحية العملية سوى إضعاف المسارين معا..والمطلوب هو استمرار تكاملهما من أجل التنفيذ الكامل والحاسم لبرنامج الفترة الانتقالية على النحو الذي يساعد على خلق قطيعة مع النظام .. فالمسار الثوري الذي تأهل لإسقاط النظام يجب أن يتأهل تنظيميا للعب دور الرقيب الشعبي الفاعل على تنفيذ برنامج المسار السياسي.. وعلى المسار السياسي أن لا ينسى أن الثورة هي الأصل وأن التسوية هي الفرع..وعلى الفرع أن يتسق موضوعيا مع أهداف الأصل وإلا تعثر الإثنان وسقطا. 2 – التشكيك في صحة وسلامة الانتخابات الرئاسية المبكرة في 21 فبراير والقول بأنها ستكون فاقدة للشرعية ما لم تجر على أساس تنافسي..والمعلوم أن هذه الانتخابات لم تكن محل إجماع بين كل الأطراف الموقعة على المبادرة الخليجية وآليها التنفيذية وإنما تم القبول بها من قبيل سد الذرائع وتمكين عبد ربه منصور هادي من قيادة عملية التسوية في مناخات آمنة كرئيس إنتقالي توافقي.. وهادي يستمد شرعيته الفعلية من التوافق عليه لا من انتخابه المزمع..والأصل هنا هو التوافق وليس الانتخاب بدليل أن هادي سيشرف على تنفيذ برنامج توافقي مضمن في الآلية التنفيذية للمبادرة الخليجية وليس مطلوبا منه أن يقدم برنامجا إنتخابيا خاصا به، فهو مطلوب لشخصه وليس لبرنامجه، والذي اختاره ليس أطراف التسوية وإنما لحظة تاريخية إستثنائية شكلتها الثورة ورست عليه وطنيا وإقليميا ودوليا..وفرقاء السياسة في اليمن يدركون هذا جيدا..وما نطلبه من الرئيس هادي أن يكون بحجم هذه اللحظة لا أكثر ولا أقل وأن يتمكن من ضبط الأمن في البلاد وأن يقف على مسافة واحدة من كل الفرقاء..إن هادي هو عمليا الرئيس الفعلي للبلاد منذ اللحظة التي صدر فيها قانون الحصانة..والإنتخابات المبكرة هي من قبيل تحصيل الحاصل..ومع ذلك علينا أن نتوجه يوم 21 فبراير إلى صناديق الاقتراع لنقول: نعم لهادي..وبهذه الكلمة سنتمكن من نزع الألغام التي تقف أمام إرادة التغيير وسنشرع في تنفيذ برنامج الفترة الانتقالية من غير منغصات..أما التهديد بالمقاطعة أو بالذهاب إلى المحكمة العليا ليس إلا تنويعة من تنويعات الالتفاف على التوافق الوطني وهو في أقوى حالاته لن يكون سوى الرصاصة التي “ تدوش ولا تقتل “. 3 – إستمرار تمترس الحراكيين في الجنوب وراء شعار “فك الارتباط” والقول بأن وحدة 22 مايو السلمية انتهت بحرب 1994.. يجري هذا في وقت تعترف فيه كل نخب المحافظات الشمالية بالقضية الجنوبية وجاهزة لحلها حلا عادلا بما يرضي أهلنا في المحافظات الجنوبية وبما يحفظ لليمن وحدته وأمنه واستقراه..وقد تعمدت هذه الجاهزية بثورة شبابية شعبية أعادت الاعتبار المعنوي لأبناء المحافظات الجنوبية ودورهم الريادي في تكريس وتعميم ثقافة الوحدة وتحقيقها عمليا وفتحت أبوابا واسعة لمصالحة وطنية تاريخية ستتجسد ماديا في دولة مدنية تقف على مسافة واحدة من كل اليمنيين وتساوي بينهم في المواطنة والكرامة الشخصية..والطريق إلى هذه الدولة سيكون محفوفا بالمخاطر ما لم يشارك أهلنا في الجنوب مشاركة فاعلة ونوعية في صياغة كل تفاصيلها والانتصار لها إنطلاقا من مصلحة المواطن البسيط في الجنوب والشمال ومن حاجة البلاد إلى أمن واستقرار دائمين وتنمية حقيقية مستدامة..لقد هيأت الثورة الشبابية الشعبية مناخا إستثنائيا لخيار بناء الدولة المدنية على الصعيد الوطني العام..وإذا كانت قيادات الحراك ترى غير ذلك وتعتقد بأن المحافظات الشمالية ليست مؤهلا لهذه الدولة وأن المحافظات الجنوبية هو المؤهل فعليها أن تقيم الحجة على ذلك من داخل مؤتمر الحوار الوطني القادم..وحينها ستجد من يتعاطف معها داخل الشمال أكثر من أولئك الذين في الجنوب..أما الحديث عن دولة اتحادية من إقليمين ثم استفتاء على تقرير المصير بعد خمس سنوات فهذا يحتاج أولا إلى إثبات أن الجنوب ليس جزءا من اليمن وأن سكانه ينتمون إلى مجموعة عرقية وثقافية مختلفة عن تلك التي ينتمي إليها سكان الشمال..وما لم يثبت هذا فإن الاستفتاء الذي اقترحه حيدر العطاس سيكون مقدمة لاستفتاءات لاحقة تقطع أوصال الجنوب وتعيده إلى ما قبل 1967..فالقوة السياسية التي وحدت سلطنات وإمارات ومشيخات الجنوب قسرا عشية الاستقلال هي نفسها التي وحدته مع الشمال طوعا عام 1990..وإذا جاز الارتكاس عن التوحيد الثاني فسوف يجوز عن الأول..إن حرب 1994- مثلها مثل أحداث يناير 1986- لم تكن بين جهتين في الجغرافيا وإنما بين موقفين في السياسة رغم توظيف الروابط القبلية في الحالتين..وفي الحالتين أيضا كانت الحرب تعبيرا عن أزمة الدولة ونظامها السياسي ولم تكن بسبب الوحدة..وفك الارتباط لن يحل أزمة الدولة والنظام السياسي وإنما سينقلها كاملة إلى الجنوب مع بقائها كاملة في الشمال وسيعيد إنتاج الصراعات والحروب القديمة بين الشطرين..وربما أدى ذلك إلى إعادة تشظي الجنوب الذي لم يعرف الوحدة إلا خلال الفترة الممتدة من 30 نوفمبر 1967 حتى 22 مايو 1990 وهذه فترة قصيرة تخللها صراع عنيف على السلطة..وكان الحزب الاشتراكي حينها خيط السبحة الذي جمع شتات الجنوب واستدعى هويته اليمنية من إرشيف التاريخ وأيقظها نافضا عنها غبار أزمنة التشظي، وبنى نظامه السياسي على استراتيجية الوحدة والنظرة الدونية للتشطير، الأمر الذي أفضى إلى تصالح الجغرافيا مع التاريخ في 22 مايو 1990..وهذا إنجاز تاريخي عظيم يحسب للحزب الاشتراكي..أما الدعوة إلى فك الارتباط فليست في واقع الأمر إلا حنينا إلى الغبار يتغذى من أزمة الدولة والنظام السياسي..والمطلوب هو حل هذه الأزمة في إطار الوحدة لا الهروب منها إلى أزمات لا تنتهي..وحرب 1994 ليست حجة على الوحدة وإنما على الإدارة السياسية التي انفردت باتفاقيتها وسلقتها في صفحتين ونصف..والمطلوب الآن هو إعادة الاعتبار للوحدة لا للتشطير..فالوحدة كانت إدانة للتشطير ولا يمكن أن نكرمه بالعودة إليه..فالعودة إلى الخطأ تندرج في إطار إلغاء العقل. 4 – مراهنة البعض على الحوثية والحوثيين كعامل توازن مع التجمع اليمني للإصلاح..وهذا التوازن ليس إلا وهما من أوهام الضعفاء الذين لا يجدون القوة في أنفسهم فيبحثون عنها في غيرهم..فالتوازن الذي تحتاجه الديمقراطية هو توازن اجتماعي سياسي مدني وليس توازنا في القدرة على ممارسة العنف المسلح..والحوثية ظهرت إلى العلن في سياق مواجهات مسلحة مع الدولة وأسست حضورها على الانتصارات التي حققتها في تلك المواجهات وأخذت شكل تمرد على الدولة بغض النظر عن عدم قبول البعض بطريقة التعامل الرسمي مع الظاهرة الحوثية..والانتصارات التي حققتها هذه الحركة لم تكن سياسية بحيث يمكن احتسابها ضد السلطة والنظام السياسي وإنما كانت عسكرية ولا يمكن احتسابها إلا ضد الدولة.. وبهذا المعنى هي هزيمة لكل اليمنيين حتى وإن لم يكن الإخوة الحوثيون يقصدون ذلك، فالعبرة في النتائج وليس في المقدمات..وستبقى الهزيمة قائمة بعد نجاح الثورة أيا كان الطرف الذي يدير سلطة الدولة..وما لم تتحول الظاهرة الحوثية إلى حركة اجتماعية سياسية مدنية فلن يكون بمقدورها المشاركة الإيجابية في إعادة صياغة مستقبل البلاد وسوف تشكل حقل ألغام أمام أي مسعى جدي لإعادة بناء الدولة..وبالتالي فالحديث عنها في وضعها الراهن كمكافئ للتجمع اليمني للإصلاح لا يعبر عن الخوف على الديمقراطية بقدر ما يعبر عن الكراهية لتجمع الإصلاح والرغبة في إضعافه وهذا ضرب من ضروب اللعب بالنار..إن الحوثية حركة مسلحة عينها على مواقع في الجغرافيا وأداة قياسها الأمتار، بينما تجمع الإصلاح حزب سياسي عينه على مواقف في المجتمع وأداة قياسها الأفكار والأنفار.. فالحوثية تتمدد على الأرض وتجمع الإصلاح يتمدد في القلوب والعقول..الحوثية تنافس الدولة وتجمع الإصلاح ينافس من أجل السلطة.. الحوثية حاضرة عسكريا في صعدة وحرف سفيان وتجمع الإصلاح صاحب حضور مجتمعي وسياسي في كل حي وحارة وقرية في اليمن..وانطلاقا من هذه المقارنات تمثل الحوثية بوضعها الراهن تهديدا للوحدة الوطنية للبلاد، سواء أدركت ذلك أم لم تدرك، بينما يمثل تجمع الإصلاح أحد أهم عوامل تماسك هذه الوحدة في ظل أزمة الدولة وضعف سلطتها..وأي إضعاف لهذا الحزب سيلقي بظلاله على الوحدة الوطنية..والجنوب بعد حرب 1994 خير شاهد على ذلك..حيث أدى إقصاء الحزب الاشتراكي إلى نشوء فراغات سياسية في المحافظات الجنوبية ملأتها دعاوى الانفصال .. ومثلما كان الاشتراكي حزبا بحجم الوطن فتجمع الإصلاح موجود اليوم في كل تفاصيل الخارطة الوطنية..وليس من مصلحة الوطن أن نتمنى له حتى ربع المصير الذي لقيه الاشتراكي مع علمنا أنه كان شريكا فاعلا في صناعة ذلك المصير..وبعد الإجهاز على شريك الوحدة تهيأت شروط لمراكمة فرص الإجهاز على شريك الحرب..وإذا كانت قيادة الاشتراكي قد خسرت المعركة في 1994 بسبب رهانها على معسكراتها فإن قيادة الإصلاح راهنت على المجتمع وعلى تحالفاتها السياسية وانتصرت من الشارع وبالشارع..صحيح أنه ما كان بمقدور التجمع اليمني للإصلاح منفردا أن يصنع هذا الإنتصار..لكن الصحيح أيضا أنه ما كان بمقدور الثورة الشبابية الشعبية أن تنتصر، كما نعتقد، من غير تجمع الإصلاح..وعلى الذين يريدون أن يضعفوا هذا الحزب أن يتأملوا في هذه المعطيات وأن يدركوا أن قوة أي حزب سياسي هي قوة للمجتمع وأن إضعافه إضعاف للمجتمع..والأحزاب في النظام الديمقراطي تعيش أو تفشل في جو من المنافسة، كما أنها تنتعش بتحدي الأحزاب الأخرى وبتعرضها للتحدي..وعلى الأحزاب التي تحس بالضعف وتعجز عن المنافسة والتحدي أن تفتش عن الأسباب في داخلها وليس خارجها. 5 – تمترس البعض وراء قناعات جاهزة تسم التجمع اليمني للإصلاح بالسلفية والماضوية والعداء للدولة المدنية لمجرد أنه يشترط المرجعية الإسلامية لهذه الدولة..وهذه إشكالية تعبر عن التباس مفهوم الدولة المدنية عند كل الأطراف تقريبا وسوف تلقي بظلالها الكثيفة على مؤتمر الحوار الوطني الشامل..ونجاح أو فشل هذا المؤتمر يتوقف إلى حد كبير على التجمع اليمني للإصلاح باعتباره الأخ الأكبر في العائلة الوطنية..وأخطاء الكبار تكون عادة كبيرة بحجمهم..وعلى التجمع اليمني للإصلاح أن يحرص على عدم الذهاب إلى المؤتمر إلا بعد تطمين كل الأطراف بشأن موقفه من الدولة المدنية..وبالمقابل على الأطراف الأخرى أن تميز بين السلفية والماضوية من جهة وبين المحافظة من جهة أخرى..فحزب الإصلاح حزب محافظ..والمحافظة ظاهرة ملازمة لكل الأنساق التاريخية وموجودة في كل العالم ولكن في سياقات مختلفة..والحياة لا تستقيم إلا بتعايش وتعاون وتوافق الاتجاهات المحافظة والاتجاهات التقدمية وتوازنها..فعندما تتسيد نزعة المحافظة وتغيب دوافع التقدم يكون الركود..وعندما تتسيد التقدمية وتغيب المحافظة تكون الفوضى الناجمة عن القفز على الواقع وإحراق مراحله..وعندما تكون الاتجاهات التقدمية عقلانية ورشيدة ومتوازنة تكون الاتجاهات المحافظة كذلك أيضا..ومثلما تخضع التقدمية لقانون الحركة والتطور فالمحافظة تستجيب لهذا القانون وإن بمعدل أقل..وحزب الإصلاح اليوم ليس هو نفسه عام 1990..والديمقراطية لا تستثني الاتجاهات المحافظة ولا تصادر عليها حقها في أن تتخذ لنفسها مرجعية دينية، شريطة أن تدخل معترك السياسة بمفاهيم السياسية وليس بمفاهيم الدين وأن تقبل بخضوع القوانين المستمدة من الشريعة للإجراءات الشكلانية نفسها التي تخضع لها القوانين الوضعية كالصدور عن برلمان منتخب من الشعب صاحب السيادة وليس عن رجال الدين الذين يرون في السيادة الشعبية نفيا لسيادة الله..والقول بأن سيادة الشعب نفي لسيادة الله أو منازعة له على سيادته هو الكهنوت بعينه..والإسلام الذي لا يقبل الكهنوت في شئون الدين لا يمكن أن يقبل به في شئون الدنيا..والديمقراطية لم تقم على فرضية وجود الإجماع في المجتمع وإنما على حقيقة وجود التعدد والاختلاف..ومهمة الديمقراطية إدارة الاختلاف وليس خلق الإجماع..فالإجماع مستحيل ومن استحالته نشأت الحاجة إلى الديمقراطية، وإلا فلا داعي لها..واتساقا مع مبدأ السيادة الشعبية تكون الدولة المدنية هي التنظيم الذاتي للمجتمع المتعدد، أو هي “ المجتمع المنظم ذاتيا عبر الدولة “، كما يقول هيجل “..وهي لا تتدعم إلا بالخضوع للمجتمع والتفاهم معه والارتباط به..وإذا كان الشعب صاحب السيادة ومصدر السلطة مسلما فإن قوانين دولته المدنية هي القوانين التي لا تتصادم مع المقاصد الكلية لهذه الشريعة سواء كان مصدرها النقل أو العقل أو تكامل فيها النقل والعقل..والدولة المدنية مفهوم مجرد ومحايد لا هي مؤمنة ولا هي ملحدة وليس لها في ذاتها لا أفكار ولا عقائد ولا سياسات ولا قوانين وإنما تتبنى وتنفذ الأفكار والسياسات والقوانين التي يقترحها صاحب السيادة الشعب دون أن تفقد حيادها تجاه مكونات شعبها الاجتماعية والسياسية والمذهبية والعرقية والثقافية والجنسية..والدولة المدنية ليست دولة المؤمنين ولا دولة الملحدين، وليست دولة الرجال ولا دولة النساء، ولا هي دولة الزيود ولا دولة الشوافع، وهي أيضا ليست دولة الشماليين ولا دولة الجنوبيين..إنها دولة المواطنين الأحرار المتساوين أمام القانون في الحقوق والواجبات..والمواطن في نظر الدولة المدنية ليس حالة سكونية ثابتة وإنما متغيرة، وهي لذلك دولة مرنة تتكيف مع المتغيرات التي تطرأ على مواطنيها دون أن تبدي أي مقاومة.. والدولة المدنية نفسها تخضع للقانون وليست متعالية عليه..إنها دولة القانون وليست دولة السلطان..وهي لكل ذلك نتاج تعاقد واع مبني على توافق وطني عام.. والذين يعتقدون أن التجمع اليمني للإصلاح يرفض هذه الدولة عليهم أن لا يضيعوا وقتهم في الدعاء عليه لأن الله لا يستجيب لمن يختار السير في الطريق الخطأ..عليهم أن يتوجهوا إلى الشعب صاحب السيادة وأن يقنعوه بتبني أفكارهم..والشعوب تتقبل الأفكار المبتكرة إذا اتسمت بالعقلانية والوضوح والجاذبية وكانت غير متصادمة مع ثقافاتها ومعتقداتها..ما لم فالدفع مع تجمع الإصلاح بالتي هي أحسن سيجعل منه وليا حميما أو نصف أو ربع حميم وهذا هو الطريق الأسلم المؤدي إلى الدولة المدنية..مع العلم أننا لن نحصل على هذه الدولة دفعة واحدة ولكن قطارها يجب أن يتحرك إلى الأمام وأن يسير فوق قضبان آمنة. 6 – استمرار تمترس بعض قيادات المؤتمر الشعبي العام وراء الماضي إلى حد أنها اعتبرت إلغاء مربع من واجهة صحيفة الثورة إنقلابا على المبادرة الخليجية وآليتها التنفيذية، مع علمها أن صحيفة الثورة مملوكة للشعب ومقسومة بالتساوي على 24 مليون يمني ويمنية... وما فعله رئيس تحرير الصحيفة تصحيح لخطأ مزمن لا يجب أن يتكرر..والرجل تصرف بوحي من أخلاقيات المهنة وفي إطار القانون..ما نريد أن نقوله إن المؤتمر الشعبي العام يغامر بمستقبله السياسي إن هو استسلم لوهم الشعور بالهزيمة واندفع تحت ضغط هذا الشعور لخوض معارك غير مبررة من الوجهة الموضوعية والقانونية ومضرة بعملية التسوية..إن المؤتمر الشعبي حزب غني بالكفاءات والعقول وبمقدوره أن يستأنف حياة جديدة متحررة من سلبيات الماضي وأن يحول وهم الشعور بالهزيمة إلى إنتصار للوطن..وأمامه الآن فرصة تاريخية كي يغادر مغارته القديمة إلى رحاب الوطن الكبير..فهو مطلوب وطنيا ليكون عامل توازن إيجابياً في عملية التسوية وبناء الدولة المدنية الديمقراطية..وما لم يفلح المؤتمر الشعبي العام في لعب دور الشريك الإيجابي في صياغة مستقبل اليمن خلال الفترة الانتقالية فمن المشكوك فيه أن يحافظ على بقائه كحزب سياسي كبير وفاعل وحينها لن يشفع التاريخ للمؤتمريين إن هم قالوا: «إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا».
إن مظاهر التمترس كثيرة وإنما أتينا على بعضها الأكثر رواجا هذه الأيام..وأمام اليمنيين تجربة طويلة من التمترسات تمتد لأكثر من خمسين عاما من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار وبسببها وصلنا إلى ما نحن عليه من بؤس وشقاء..ونحن اليوم بأمس الحاجة إلى نظام سياسي مرن يتسم بالقابلية للتغيير السلمي المنظم على مستوى النخب وعلى مستوى النظام نفسه.. والفرصة الآن ماثلة أمامنا وإذا أضعناها سنظل نعيد إنتاج دورات العنف بلا نهاية.