كتبت في الأعداد الماضية من ملحق الديمقراطية مقالات حول أزمات العملية الانتخابية في الديمقراطيات الناشئة وتحديداً أزمة اعتراف الأحزاب الخاسرة بنزاهة الانتخابات ونتائجها، ثم أزمة تداول السلطة سلمياً عبر صناديق الاقتراع رأيت في تلك المقالات أن النظام الديمقراطي في البلدان التي تحولت حديثاً بالحية، لم يكتمل بناء منظومته النظرية والعملية وتأمين الاستقرار في نظم ومجتمعات تلك البلدان بحيث لايختل استقرارها بنتائج التداول السلمي للسلطة بين الخارجين منها والداخلين إليها عبر صناديق الاقتراع. يوم الاثنين الماضي، اختتمت في مصر أعمال مؤتمر أحزاب الائتلاف الديمقراطي التي تقدمت بمبادرة للإصلاح الديمقراطي تبدأ بالإصلاح الدستوري ضمن مطالب لتعديل الدستور المصري تعديلاً يضمن مدنية الدولة، وسيادة الشعب، ومبدأ المواطنة بما يكفل للمواطن المصري الحقوق السياسية ويساهم في بناء مقومات الاستقرار السياسي في الدولة والمجتمع. ركزت مبادرة الأحزاب المصرية على أولوية الحرية ومدنية الدولة وسيادة الشعب كمصدر وحيد للشرعية السياسية وبغض النظر عن أولويات مبادرة الأحزاب المصرية، وآليات العمل التي اقترحتها فإنها إجمالاً أيدت بشكل جزئي ومقدار نسبي صواب الفكرة التي انطلقت منها في المقالات المذكورة وخاصة مايتصل منها بأولوية بناء الديمقراطية على آليات ممارستها، أي أولوية تأمين تداول السلطة على التداول ذاته. لقد كانت مصر أهم النماذج التي استشهدت بها في تلك المقالات وخصوصاً مايترتب على تداول السلطة فيها حالياً من مخاطر مهددة للسلم الاجتماعي والاستقرار السياسي نتيجة الاختلال القائم في طبيعة النظام وتركيبة المجتمع، تجاه واقع التعددية الدينية وسهولة انزلاقها إلى فتنة طائفية إذا تولى الإخوان المسلمون سلطة الحكم عبر صناديق الاقتراع. ولا حاجة بي هنا إلى أجراء سجال سياسي مع الذين يرون في هذا المنطق تبريراً للاستبداد وتعطيلاً للتحول إلى نظم الحكم الديمقراطي في الأقطار العربية لأن القضية التي أُعنى بها هي قضية التغيير الديمقراطي، أولوياته ومحدداته. ودعوني أشدد هنا على أني أركز على قضية ومبدأ، أما القضية فهي قضية التغيير المراد إنجازه في الأقطار العربية من مدخل سياسي، وأما المبدأ فهو في تحديد طبيعة هذا التغيير أي باشتراط أن يكون التغيير ديمقراطياً في الشكل والمضمون، وفي المنطلقات والغايات كما في الوسائل والآليات، فلا ديمقراطية ممكنة بغير قيمها ووسائلها في مقدمات فعل التغيير ونتائجه. وما دامت المسألة محددة تحت عنوان أو مسمى، التغيير الديمقراطي فإن السجال مع المواقف السياسية لايجدي، لأننا نبحث عن مضمون التغيير وكيفية تحقيقه في الواقع السياسي، أما الذين يحصرون هذا التغيير في اسقاط نظام الحكم عبر الانتخابات فإنهم لايزالون أسرى عقلية انقلابية غيرت قديماً الأسماء والأشخاص وأبقت على التخلف والاستبداد. فدعونا إذاً نقف هنا عند مبدأين من مبادئ الديمقراطية هما: طبيعة الدولة ومصدر الشرعية السياسية لنرى مدى القبول بتداول السلطة في نظام غير متوافق في دستوره على طبيعة الدولة ومصدر الشرعية السياسية فيها، ففي الديمقراطية تكون طبيعة الدولة مدنية، والشعب هو المصدر الوحيد للشرعية السياسية فيها. وهنا أجدني مضطراً إلى بيان يجنبني المساجلات العقيمة حول العلمانية والدين، بالقول: إن مدنية الدولة لاصلة لها بالموقف من الدين، وإنما تختص ببيان الطابع العام للدولة أو الصفة المميزة لها، كدولة للناس ومنهم الذين ليس لأحد منهم حقاً إلا هي في تولي سلطة الحكم وإدارته فهي ليست دولة دينية من هذا الباب. وطبيعة الدولة تحدد مصدر الشرعية السياسية فإذا كانت مدنية، فالشعب هو المصدر الوحيد لهذه الشرعية وإذا كانت غير ذلك في الشرعية يتوقف على طبيعتها كأن تكون دولة دينية بشرعية الحق الإلهي، أو تكون دولة الطبقة العاملة بشرعية الشيوعية أو دولة كهنوتية، وهكذا. فإذا كان الشعب هو المصدر الوحيد للشرعية فإن أي تقييد لحق الناس في اختيار الحكام وحريتهم المطلقة في هذا الاختيار يلغي الديمقراطية لصالح المفوضين بمراقبة وتنفيذ هذا القيد، أي لصالح الاستبداد. وبعبارة أوضح، فإن الطبيعة المدنية والشرعية الشعبية للسياسة تعني حرية الاختيار وحرية التعبير بحيث يتوافر للعمل السياسي عناصر التعددية التي تتجه إلى الناس بالدعوة وتحتكم لحقهم في الاختيار عبر صناديق الاقتراع والتسليم بهذا الحق دون قيد أو شرط. ومعنى ذلك أن الدولة المدنية تتسع لجميع المواطنين بغض النظر عن اختلافهم في الدين والمعتقد وبحيث يكون من حقهم الانتماء إلى حزب شيوعي، والنشاط باسمه والدعوة إلى اختياره دون أن يكون هذا الحق مقيداً بشرط الدين أو محظوراً باسم الإسلام، وإلا كنا في مواجهة استبداد ديني يمثله رجال الكهنوت. وفي مصر مثلاً، إذا اشترط الدستور أن يكون الدين الرسمي للدولة هو الإسلام بمعنى أن يكون الشأن السياسي للمسلمين دون الأقباط، فهنا تختفي مدنية الدولة والشرعية الشعبية لصالح استبداد قد لايحرم الأقباط من حقهم السياسي فحسب وإنما يحرم بعض المسلمين بدعوى الشك في إسلامهم أو الإفتاء بكفرهم وهذا واقع مشهود. إن حرية الشعب في اختيار الحكام، هي ضمانة كون الانتخابات نزيهة فإذا قيدت هذه الحرية لسبب ديني أو سياسي فإن حرية الشعب تصادر ليكون الحق مسنداً لحراس هذا القيد، وبعبارة أخرى، فإن الشعب في هذه الحالة لايختار بملء ارادته وإنما يختار مايراد له أن يختار ممن لهم حق العمل بموجب القيد والشروط.. لابد قبل التداول السلمي للسلطة من عقد اجتماعي يؤمن لهذا التداول الاستقرار السياسي في الدولة والمجتمع، وهذا يعني التوافق على مدنية الدولة والتسليم بالشعب مصدراً وحيداً للشرعية السياسية وبدون قيد أو شرط حتى باسم الدين عامة أو الإسلام خاصة. إذاً فالإصلاح الدستوري يعني تحديد مرجعية القيم العليا المحددة لطبيعة الدولة ومصدر الشرعية السياسية فيها بحيث تكون المواطنة أساس الحقوق والواجبات بدون تمييز جنسي أو عرقي أو ديني، وإلا فنحن أمام استبداد أو طاغوت ديني. ... وللحديث صلة.