كان ذلك في زمن الوليد بن عبد الملك،حين أحضر إلى مجلسه رجلاً من الخوارج مهدداً بالموت، فنظر إليه الوليد وسأله بعد أن أعدّه للقتل مجموعة من الأسئلة لا ينجو منها؟ ما تقول في أبي بكر؟ قال: صاحب النبي في الغار وثاني اثنين إذ هما في الغار.... رحمه الله وغفر له.. سأله من جديد: فما تقول في عمر؟ أجاب: هو الفاروق... رحمه الله وغفر له.. سأله: فما تقول في عثمان؟ أجاب: كانت سنوات قليلة من حكمه التي حكم فيها فعدل!! (ملازماً للعدل) وهنا جاء السؤال القاتل؟ فما تقول في مروان بن الحكم؟؟(جده) أجاب الخارجي بدون تلعثم: “لعن الله ذاك” تمالك الوليد نفسه فسأل: فما تقول في عبد الملك (وهو هنا والده؟) أجاب: ذلك ابن ذاك لعن الله الاثنين معاً! اقترب في السؤال أكثر: فما تقول فيّ؟ أجاب بدون تردد: أنت ولد الاثنين وأنت شر الثلاثة. وكان في المجلس عمر بن عبد العزيز وخالد بن ريان (والأخير من جلادي الوليد). التفت الوليد وقال لعمر بن عبد العزيز: يا عمر لقد سمعت ما قاله الرجل فماذا تقول؟ أجاب عمر بهدوء: يا أمير المؤمنين ما أحد أعلم بهذا منك، وأنت أعلى به عيناً! فاشتد الوليد في السؤال وقال: ألاّ قلت لي بصراحة ما رأيك؟ وكان يريد أن يصل لقرار قتل الرجل بالآراء المحيطة به .. ولكن عمر خذله وقال: إن كنت مصراً على رأيي فأقول سُبْ أباه كما سَبَّ آباءك .. وإن تعفُ أقرب للتقوى .. فأحرج الوليد وقال: ليس إلا هذا .. فعلق عمر وقال بجرأة: “ لا يا أمير المؤمنين إلا أن تدخلك جبرية، فأما الحق فليس إلا هذا” أي ليس من حقك قتل الرجل من أجل كلمة نطقها .. ثم التفت الوليد إلى خالد بن ريان وألف علامة غيظ تنفجر من وجهه الغضبان، فلما انصرف؛ قال (خالد بن ريان) لعمر والله لقد نظر إلي نظرة وكأنه يريد قتلك؟ قال عمر: وهل كنت قاتلي؟ قال: نعم بدون تردد وبأمر الخليفة؟ قال عمر كان شراً لكما أنتما الاثنان وخيراً لي ... فلما انصرف عمر سالماً لزم بيته أياماً فلم يدخل قصر الخليفة، أما الوليد فقد رجع إلى زوجته أم البنين بنت عبد العزيز وكانت أخت عمر، فقال لها: أخوك الحروري (يقصد أنه يشبه الخوارج لأنه نطق بالعدل ونصر المسكين من الذبح!) والله لأقتلنه؟ وبعد عدة أيام جاءه رسول الوليد فدعاه، فلما دخل القصر انتحوا به جانباً، وقالوا: من هنا يريد الخليفة رؤيتك، على طريقة المخابرات، لمدة خمس دقائق فقط لتتحول إلى عشرين سنة في السجن؟ وهو ما حدث لعمر بن عبد العزيز فقد أدخلوه غرفة، ثم أحكموا رتاج الباب، ثم طينوا الباب، فتحول الحبس إلى مدفن فعلي. وهنا بدأت أخته في البحث عنه فلم يدله على مكانه إلا (خصي)؟ والخصيان كانوا بين الحريم يعملون مخابرات وجواسيس في القصر، ويقودون الانقلابات. دخلت زوجة الوليد عليه، وناشدته الرحم، ثم سقطت على وجهها أمامه، وقبّلت يديه، وطلبت الرحمة في أخيها، فنظر لها بغضب، وقال اذهبي إليه فقد أطلقته، وعسى أن يكون حياً يرزق، فلما دخلوا الغرفة وخلعوا الطين كان في الأنفاس الأخيرة منثني العنق ينازع.. ثم دارت الأيام دورتها فهلك الوليد، ثم نفق أخوه سليمان، ثم استقر الأمر لعمر بن عبد العزيز؛ فجاء خالد بن ريان يوم خلافته متقلداً سيفه، فقال له عمر: يا خالد انطلق بسيفك هذا (وكان سيَّافاً كما علمنا مهمته قطع الرؤوس على الكلمة) فضعه في بيتك، وأقعد فيه، فإنا لا حاجة لنا فيك .. أنت رجل إذا أمرت بشيء فعلته لا تنظر إلى دينك.. فلما انصرف خالد نظر عمر في قفاه فقال: اللهم يا رب إني قد وضعته لك فلا ترفعه أبداً .. فما لبث جمعة إلا وضربه الفالج فلم يعالج فقتله ..