ناقشني بعض الذين قرأوا مقالاتي المنشورة بالعدد قبل الماضي من ملحق أفكار تحت هذا العنوان: “قتل المرتد.. الجريمة التي حرمها الإسلام” حول الأساس الفقهي الذي استندت إليه في تجريم قتل المرتد وتحريمه في الإسلام. وفي تلك المناقشات الشخصية وجدتني مدفوعاً إلى بيان ما أشكل على أولئك من قول ومدلول وهذا حق غيرهم ممن قرأوا تلك المقالة، وحالت ظروف خاصة بي وبهم دون مناقشتي في قضية القول وإشكالات البيان، ولهذا جاء هذا المقال. سأقول ابتداءً: أن محاسبة عباد الله على مشيئتهم في الاختيار بين الهدى والضلال، أو الكفر والإيمان حق الله وحده دون غيره من ملك مقرب أو نبي مرسل، وأي اعتداء على هذا الحق من قبل فرد أو طائفة من الناس هو جريمة معلومة من دين الإسلام بالضرورة. والأساس الفقهي لهذا التجريم ظاهر في الآيات البينات من أي الذكر الحكيم، التي تحدد وظيفة عبدالله ورسوله وخاتم النبيين محمد صلى عليه وسلم وآله وسلم في البلاغ المبين تبشيراً وإنذاراً، وتذكيراً ودعوة وتجعل أمر الحساب لله وحده، يقول تعالى: “ فذكر إنما أنت مذكر لست عليهم بمسيطر، إلا من تولى وكفر، فيعذبه الله العذاب الأكبر، إن إلينا إيابهم، ثم إن علينا حسابهم” الغاشية الآيات 21 26 هذا من حيث المبدأ فإذا انتقلنا منه إلى حالة خاصة بالذين كفروا بعد إيمان، فإننا سنجد في القرآن الكريم بياناً مبيناً بالهدى وبيناته تحدد جزاء المرتدين بالخلود في لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، وقد أوردنا في المقال المشار إليه تلك الآيات فمن أراد التبين فليرجع إليه. وفقهياً، اشترط علماء أصول الفقه، أن عقائد الإيمان وأحكام الشرع لا تثبت إلا بدليل قطعي الورود والدلالة وما داخله الظن وروداً أو دلالة، أو هما معاً لا يكون أصلاً في العقيدة يقوم عليه الفرق بين الكفر والإيمان، أو حكماً في شريعة يقوم عليها الإسلام، وأسانيد الرأي القائل بقتل المرتد أسانيد ظنية، ثبوتاً ودلالة لذلك ليست أصلاً في العقيدة ولا حكماً في الشرع فهي رأي أهلها سواءً كانوا كثرة أم قلة، سلفاً أم خلفاً. سأدعو القارئ الكريم إلى تدبر بينات الهدى والفرقان في هذه الآية من آي الذكر الحكيم، حيث يقول الحق سبحانه: “يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم ومن الذين هادوا سماعون للكذب سماعون لقوم آخرين لم يأتوك يحرفون الكلم من بعد مواضعه يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه وإن لم تؤتوه فاحذروا، ومن ير الله فتنته فلن تملك له من الله شيئاً أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم” المائدة الآية 41. هذه الآية في آخر سورة تنزلت على عبدالله ورسوله وخاتم النبيين، وهي إحدى آيتين في القرآن الكريم كلمة تخاطب محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بصفته رسولاً، وتنهاه عن الحزن على الذين يسارعون في الكفر من الذين آمنوا لفظاً وكفروا قلباً، وتحدد لهم جزاءً واضحاً في ختام الآية بقوله تعالى: “لهم في الدنيا خزي وفي الآخرة عذاب عظيم”. ولا شك أن هؤلاء فعلوا ما يستدعي من الرسول أن يحزن منه، فهم يسارعون في الكفر، وإن كانوا فئة من المنافقين فهم في الكفر سواءً مع فريق من الذين هادوا سماعون للكذب جواسيس لقوم آخرين. ودعونا هنا، نبين من معاني الإسلام ما فهمناه من تدبر هذه المعاني في آيات القرآن الكريم، وهو الاستسلام لإرادة الله الظاهرة في الخلق والأمر والتسليم بمشيئته الناظمة للحياة وشئون معايشها، فإذا أراد الله فتنة فرد أو فئة، فإن أي بشر لا يملك له من الله شيئاً، فإذا ارتد عن الإسلام بعد إيمان، فإنه قد اختار لنفسه مما شاء الله أن يبتليه به في الحياة الدنيا بفتنة الخير والشر ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئاً أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم». إن استتابة المرتد بزعمهم جريمة لكونها اعتداء على حق الله في مشيئته لعباده فالتوبة على المرتد أو تعذيبه لله وما شاء للظالمين، وهذا أمر ليس للرسول منه شيء، فكيف يكون لغيره منه شيء أو أشياء، تدبر معي بينات الهدى والفرقان بهذا المعنى في هذه الآيات حيث يقول الحق سبحانه:«ليقطع طرفاً من الذين كفروا أو يكبتهم فينقلبوا خائبين، ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون، ولله مافي السماوات ومافي الأرض يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء والله غفور رحيم» آل عمران الآيات 127129. إن أحكام الإسلام تحقق للناس مكارم الأخلاق، فإن جاء منها ما يؤدي إلى النفاق وإشاعته في المجتمع، فإن ذلك ليس منها وإن زعم الزاعمون ذلك، إن توبة المرتد أمام من اعتدى على حق الله في عباده، قد تكون حرصاً على الحياة المهددة بالقتل اختياراً بين حريته وحياته، لذلك يظهر للناس إيماناً، ويضمر في باطنه ماهو عليه من اختيار، فماذا ينفع الإسلام من إيمان مكره، وما نفع المسلمين من حالة نفاق؟! إن الناس الذين قبلوا التوبة الظاهرة بلسان من زعموا ردته ليسوا أهلاً لاستتابة غير أنفسهم، أما الذي يقبل التوبة من عباده فهو الواحد الأحد الذي لا شريك له في الملك، فلمن يقدم العبد توبته؟ ومن الذي يعاقبه على الاستكبار عن التوبة والاستنكاف عن عبادة الله؟ قال تعالى:«ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم إليه جميعاً» الآية 172 من سورة النساء. هذا ملمح موجز عن الأساس الفقهي لتجريم قتل المرتد وتحريمه في الإسلام ويبقى أن نبين الآن خللاً فقهياً في رأي القائلين بقتل المرتد، مصدره انعدام تعريف محكم للمرتد، أو الكافر بعد إيمان ذلك أن الاستخدام السياسي لهذه الجريمة قد وضع احتمالات لا تصدر عمن يتهم بالردة بقدر ما توجه إليه كتهمة بفتاوى التكفير وهذه أحوال كثير ممن اتهموا بالردة في عصرنا. دعونا نتدبر هذه الآية، يقول الحق سبحانه:«ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون» البقرة الآية 218، وفسرها السيد سابق رحمه الله بهذا النص.. «إن من يرجع عن الإسلام إلى الكفر ويستمر عليه حتى يموت كافراً فقد بطل كل ما عمله من خير وحرم ثمرته في الدنيا، فلا يكون له ما للمسلمين من حقوق، وحرم من نعيم الآخرة وهو خالد في العذاب الأليم. فأين حد الردة الذي يزعمون إن كانت الآية تصف المرتد بأنه مستمر عليه حتى الموت به؟ وللحديث صلة.