صبري السقاف.. نعم هذا هو اسمه المتعارف به.. أما سيرته الذاتية التي كان يحملها آنذاك قبل بضع سنوات ربما قليلة.. بدأها مدرساً ومربياً لأجيال تحلم بمستقبل زاهر يوصلها إلى حيث ينتظرها حلمها وتجد أمامها ثمرة الجهد التي ترتقي بها إلى ما هو أعمق عطاء من المدرس حتى يعيدوا الدين لمن هم أمثال المربي صبري السقاف.. هذا الرجل الذي ابتداءً حياته متعدد المواهب بعد ان قفز شيطان الشعر إلى رأسه وابتلاه بذلك فلم يجد أمامه سوى احضار قلمه ومذكراته وبدأ يدون كل ما يتمخض به عقله من قريحة الشعر الشعبي والعاطفي لتتمهد أمامه طريق القصيدة الغنائية التي شقت لها مسلك العبور نحو أوتار من يجيش بعقولهم حرارة الدندنة والغناء وخاصة من يعشقون لهجة الريف وحروف المواسم الزراعية حيث يتقابل هناك همسة اللحن وعذوبة الكلمة الشعرية ونغمات المغنون لتشكل هذه الحلقة صوتاً ارتدادياً ملحناً أشبه بموسيقة ارتداد الأمواج عندما تحركها رياح الزيب ويحدث من اصطدام حركتها على جدران السواحل الهادئة صوتاً جميلاً ليس ببعيد من صوت أوتار عود تحركه ريشة فنان متمكن وأنامل حساسة لا تضع وطأتها إلا على وتر يجاوبها بنغمة اللحن المطلوب.. ولم يقف عشق وطموح الشاب صبري السقاف عند تدوين القصيدة الشعرية أو مسك الطبشور والوقوف أمام سبورة الدرس ليلقي على مسامع طلابه ما يلخصه عقله من دروس تتناسب مع أفكار سنهم... ولكنه ترك لأحلامه وطموحه أن تتعمق أكثر وتتحسس مكامن المهن الأخرى التي من الممكن أن يصل إليها دون الحاجة للمبالغ المالية الباهظة التي قد يدفعها لتأسيس المهنة المختارة في عقله.. بل لا تحتاج منه الموهبة الجديدة ولا نقول المهنة... لا تحتاج أكثر من أفكار طموحة تحركها نية صادقة من رجل متحرك بطموحه وليس رجلاً آلياً تحركه وسائط أخرى كاشحنات كهربائية أوبطاريات جافة وأزرار ومفاتيح من صنع بني آدم.. ولكن أفكار هي من تحرك جسم صاحبها... وصبري السقاف واحد من هؤلاء الرجال الذين يتجاوبون مع طموح افكارهم... ولهذا استطاع أن يجمع بين مهنته الأساسية ومصدر رزقه والمتمثله بالتدريس.. وبين موهبته الأولى التي اخذته مقتاداً إلى ساحة الشعر ليتخلص من قيود شعره التي كانت قد اخذت بمحاصرته داخل تلك الساحة الشعرية ليضع اتفاقاً ثنائياً بين الشعر والفن ويكون هو المتخصص بضم هاتين الموهبتين في صدره وبين جوانحه دون أن يميز موهبة على حساب أخرى وان كانت الاولوية لها الحق بأن يتغنى بها هو أو يهديها لمن يجد فيه موهبة التغني بها وهي القصيدة الشعرية.. أما الغناء الفني وهي الموهبة الاخيرة (للمتيم) صبري السقاف فقد وضع على نفسه عهداً بأن تكون أغانية الخاصة من كلماته والحاله هو.. وهو قادر أن يزرع ويحصد.. ويطحن ويخبز.. وبعد ذلك من أراد أن يأكل من عمله فليأكل بطريقه الاستماع لفنه... لهذا ما يزال البعض من الفنانين يتغنى حتى اليوم من كلمات (الميت الحي.. أو الحي الميت) صبري السقاف وخاصة الكلمات التي تثبت عشقه وتؤكد إيمانه العميق بوطنه وحب جباله وسهولة مهما حصل أو تلقى من اغراءات ثمينة فلم ولن يتنازل عن شبر من أرضه ووطنه خاصة مثل تلك الكلمات التي تغنى بها الفنان عبدالحكيم الشيباني ويقول في بعضها من أغنية صبر..صبر (لوخيروني بين صبر وبكين... لاختار صبر لويدفعوا الملايين... مشتيش أزور بيروت ولا مراكش... مادام صبر فيضه لكل عاشق... ورد الخدود على الدوام فاتش... ويستقي بالطل بالغباشش.... عند الشروق تشاهد الحمائم.... وسط الحقول تحوم حوم هائم.... محلى الوجوه تدغدغ النسائم..... عيني ارتوت لكن قلبي صائم) وإذا تفحصنا ونظرنا لأبعاد الكلمات الغنائية التي كان يكتبها فأننا سوف نجد أن أعماق فؤاده وعزيزة عشقه وتشوقه كانت أغلبها للأماكن اليمنية وبالأخص الريفية فمثلاً فنان آخر غنى له أغنية تحت اسم (نسيم الوازعية) حيث تقول بعض أبياتها (ونسيم الحور يضرب من جناب الوازعية.. وسهيل اقبل بخيره وسحاب الأولية.. راعية غني ولالي واطربي كل الرعيه... للقاء خلي افتي حني وأعلني لذا وذية)... وبالجانب الآخر كان صبري السقاف قد تخصص بصياغة أو حياكة أو رسم أو كما يحب البعض ان يسمي ما كان يقوم به من كتابة القصيدة الغنائية التي يصوغها مسبقاً على مقاس وأبعاد لحن غنائي يكون قد رسمه برأسه ووثقه وأتى بعد ذلك بالكلمات مركبة على اللحن ليتولى هو غنائها وتسجيلها باسمه شاعراً وملحناً ومغنياً. هكذا كان صبري السقاف يتمتع بطموح التعدد بالمواهب ولم يكن يعلم أن قساوة الزمن وانقلاب حياته الاجتماعية يخططون أمام بوابة انطلاقته ليضعون له كمين الغدر ليس لغرض تصفيته جسدياً أو سلبه ما كان يمتلكه .. أو اختطافه إلى مكان غير معلوم.. او تهديده بالتوقف عن مواصلة طموحه.. كلا ولكنه غدر الزمن الذي أراد أن يسلبه عقله الطامح بالمواهب فلم يكن له ما راد إلا أنه تسبب بشيء من الاختلال وخلط جزء من افكاره المنتجه بأفكار ما يزال صبري يراها خارج إطار الهامش المجتمعي الذي أمامه، وان كانت الطامة الكبرى التي وقعت على رأسه فعلاً هي اسقاط درجته الوظيفية وحرمانه منها ومما كان باقي له بالحياة وهي لقمة العيش التي ربما كانت تستطيع ابقائه داخل حلقة الأسرة هناك في قريته والأسرة ضامن ان لها ما يستر حالها نهاية كل شهر. إلى أين رحل صبري ؟؟؟ ولم يجد حينها صبري السقاف طريقاً آخر يسلكه نحو الرحيل بل وجد نفسه هناك على رصيف شارع المصلى بتعز يفترش بلاط الأرصفة وتربتها ويلتحف الهواء والبرد والغبار... وأين بالتحديد ؟؟ أمام بوابة التربية والتعليم وكأنه يحسس مسئولي التربية أنه صار وصمة عار عليهم أمام بوابتهم ... يحملق أحياناً بوجوه البعض من زملائه المدرسين الذين مازالت الذاكرة لديه تختزل اسماءهم ولم تفرمت شخصياتهم منها ومازال يتذكر الكثير منهم عندما يناديهم بأسمائهم.. حينها أخر ينزوي لنفسه بجانب زاوية مبنى بريد المصلى ليمسك قلمه وورقة وإن كانت من قصاصات الكراتين يحشي فمه بما تيسر له من وريقات القات ويعيد ذاكرته الشعرية إلى الوراء ليستلهم منها أحاسيسه ومواجعه القديمة التي كانت عندما تريد البكاء أو الشكوى فإنها تحاكي الآخرين بحروف الشعر وموال القوافي ... أما اليوم فلم تعد حتى عيناه أن تطاوعه على البكاء لعل الدموع تخفف شيئاً قليلاً من مواجعه. كيف نواجهه ؟ وبماذا يواجهنا ؟ وإذا كنت أنا ومن خلال ملامستي شبه اليومية لحركاته لم تأذن لي عاطفتي الشخصية له أو ربما الإنسانية أن أمر من هناك دون أن أحسسه بوجوده الإنساني من خلال استفزار ذاكرته أو تنشيط كرويات شعره وقصائده.. فقد يكون مثلاً بصره بعيداً عني ولم يشعر بي إلا أني أقوم بترديد بيت شعري أو غنائي من كلماته وبصوت مسموع وإذا به يلتفت نحو الصوت التفاتة الفارس الهمام والبسمة المنتشية بادية على محياه وهو يردد عجز البيت الشعري أو يكمل القافية من نفس القصيدة التي ابتدأت بها ولم يتوقف في مكانه بل يحاول أن يكون هو السباق بمد يده لمصافحتي وبعبارة ربما تكون هي الأكثر ترديداً من قبله (كيف وجيه وكيف الأجواء ملبدة بالغيوم ؟) وإذا اطلت معه الحوار قليلاً فإنه يزداد نشوة ويزداد تعمقاً عندما يسألني (هل مازلت تقدم كلمات غنائية للفنان.. فلان؟) ليتابع بالقول (إذا عندك قصيدة غنائية ائتني بهاوأنا سوف أعطيها للفنان فلان كونه يمتلك صوتاً غنائياً حلواً أو من الممكن أعرفك به) وهناك نجد أن صبري السقاف مهما حل به ورغم خروجه من منظومته الحياتية ليس كلياً بل قد نقول انحرافاً قليلاً عن المسار الطبيعي إلا أن هواجس وأحاسيس ذاكرته ما تزال بحالة ارتباط بين العقل والطموح والعطاء والتفوق.. وعندما تقف امامه وتناقشه فقد يتغلب عليك بمضمون الحوار وربما أيضاً يكشف لك ويضيف لمعلوماتك أشياء حقيقية كانت تجهلها ثقافياً أو غنائياً .. المهم إذا أردت أو حاولت أن تبادله أي حوار فقد تستغرب عن جلوسه ورقوده وعيشته على رصيف الشارع ولماذا يسمح لنفسه أن يكون داخل دائرة الحكمة القائلة (لا تبك على من مات وابك على من فقد عقله). وكيف سقطت وظيفته ؟؟ عندما نحاول أن نتعمق في بحر شئون هذا المسكين ونبحث عن سبب خروجه عن النص فنجد أن ما يشاع ويقال: إن صبري السقاف راحت أو انقطعت درجته الوظيفية في لحظة كانت تتجاذباه بطريقة شد الحبل كل من (التربية والتعليم ومكتب الثقافة بتعر) نظراً كونه كان يتبع التربية مدرساً ودرجته الوظيفية هكذا تقول رسمياً.. إلا أن موهبته الشعرية والغنائية ربما هي من تسببت بشحن همة وعزيمة أحد المقربين لمكتب الثقافة آنذاك وليس اليوم ومطالبته ليس بطريقة التحويل الوظيفي ولكن لم نجد الخبر اليقين كيف ترك التدريس ليذهب نحو مكتب الثقافة ليقال له ليس لدينا درجة وظيفية شاغرة فعاد إلى حيث كان نحو التربية والتعليم وإلى وظيفته كمدرس ليصطدم انه لم يعد له كرسي شاغر وهذه معلومات لم تكن طبعاً أكيده بالضبط ولم نحصل على أي تأكيد من أي مصدر مسئول ولكن التربية هي وحدها من تمتلك المعرفة الكاملة كونه كان محسوباً عليها... والآن تساؤنا الوحيد أين ذهب الدرجة الوظيفية التي كانت تستر حال صبري السقاف وأسرته بعد أن كان مدرساً وهل تدخلت الخدمة المدنية في الخط وقطعت الاتصال بين صبري والتربية ؟