هذا المثل ليس من ألمانيا بل من ثقافتنا العربية، قالته بدوية بشكل عفوي، عندما ذهبت إلى السوق فأعطاها البائع تمراً سيئاً وأخسر الميزان والحشف هو الرديء من التمر. وفي القرآن سورة كاملة باسم المطففين «ويل للمطففين الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون ليوم عظيم. يوم يقوم الناس لرب العالمين» وهنا ربط القرآن التعامل المالي بالجزاء الأخروي، ولم يتوانَ عن مناقشة هذه القضية لحساسيتها، بل كرر قصة شعيب عشرات المرات من أجل هذا الموضوع، كما لم يخجل القرآن بل كان صريحاً، أن قصة لوط كانت تناقش قضية الشذوذ الجنسي، وظلمت الثقافة لوطاً حين نسبته لاسمه فيقولون: لوطي والأصح مثلي؟؟ ونحن نتظاهر بالخجل عندما نلمس مثل هذه الأمور، ونحار كيف ندور حولها وهي في قصة شعيب، ندور حولها بالكلمات، وكل قصدنا هو المال ومن الأعماق نحب المال حباً جماً. وهو أمر أظهره القرآن إلى السطح ليعرف الإنسان حقيقة الإنسان، ويعرف حقيقة المال إنه الدم الأصفر في شرايين المجتمع، كما كان الدم الأحمر في عروقنا، وكما نموت بالنزف فالمجتمع يموت بالفقر. ونحن نسمي المال أحياناً وسخ اليدين، ولكن القرآن لا يسميه وسخ يدين أو رجلين، بل (قواماً) و(خيراً)، و من اللافت للنظر أنه لا توجد آية واحدة في القرآن، تقول عن المال أنه وسخ يدين أو أنه شر محض. واعتبر (مالك بن نبي) في كتابه (المسلم في عالم الاقتصاد) وهو من أواخر ما كتب، أن المال وحدات عمل، والعملة الورقية تشبه البطارية التي تختزن الجهد. ومن تتبعي لموضوع المال في القرآن لم تقع عيني على آية واحدة تذم المال لطبيعته. وفي الحديث ( نعم المال الصالح للرجل الصالح)، وفي القرآن المال هو الخير مثل:«كتب عليكم إن ترك أحدكم خيراً» ومثل«وإنه لحب الخير لشديد» ومثل “لو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير”.. وفي أول سورة النساء اعتبر القرآن المال أنه قوام المجتمع، وما يقوم به الشيء هو العمود الفقري، ونبهنا أن نسحب الأموال من أيدي السفهاء “ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياماً”.. ونحن بسبب سفاهتنا في صرف الأمور كان الغرب علينا نحن القاصرين وصياً بسبب قوانين اجتماعية اختصرها القرآن في كلمات موعظة.. ونحن في التعامل المالي نقع في أغلاط فاحشة؛ فمن طلب حقه قالوا عنه مادي ولحوح لجوج، كما حصل معي مع دار نشر ابتلعت حقوقي ورمت لي بالعظام.. والقرآن يقول: «وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين.» وعندما يستدين أحدنا من الآخر يقول: خذه، ولا يكتبوا بينهم على أساس الثقة، فإذا وقعت المشاكل كانوا في التعامل شرسين وانفجرت العداوات بالأكواع والسباب. وأذكر من زوجتي - رحمها الله - أنها حملت أمانة من ألمانيا فلما سلمتها لصاحبتها قالت لها: “عدَّيها قبل الاستلام” قالت: هذا عيب وهل أشك في أمانتك؟ فأصرت زوجتي على العدّ وتبين خطأ في الرقم. والموضوع هنا لا يرجع إلى الأمانة بل الدقة، فقد يخطئ المرء في العدّ، فيدخل إلى النفس أنها سرقة، وهي ليست كذلك. وابن خلدون نصحنا أن نتعامل مع من يتقن مهنته ولو كان غير أمين أكثر من التقي الصدوق الذي لا يتقن عمله، فتقواه لنفسه والعمل لنا.. فوجب التعامل مع الفني ولو كان حرامياً ومراقبته..وأثناء تعاملي الطويل مع الألمان، وجدت منهم صفات تستحق الإشادة، فهم لا يخجلون من ذكر المال بصراحة، ولا يستحي أحدهم من المطالبة بحقه، ويعتبرون هذا عادياً. . ونحن إن كانت لنا حقوق عند قوم فطلبناها رأوا هذا عيباً ولا يليق بصاحبه أن يتشدد فيه ويلاحقه. ونحن نعرف في عالم العروبة أن ما فات مات، وما لا تلاحقه هلك واندثر. ومن الأخلاق الجيدة في الألمان أنهم لا يعرفون المفاصلة والأخذ والرد، ومن يذهب ليشتري غرضاً ما فهو يحدد المبلغ الذي سوف ينفقه في الشراء، وليس المبلغ الذي سوف يفاوض حوله، وهذا الشيء لم أفهمه من الأول؛ فعندما سألت صديقي الألماني عن حاجتي لشراء كاميرا؟ قال: كم تريد أن تضع لها؟ ونحن تعودنا أن نذهب فنفاصل في السعر، وهم يضعون السعر حتى لا يحصل حوله مفاصلة. . وهم يتناقشون حول القضايا المالية بصراحة، ولا يأكلون حقوق أحد، ولا يؤخرونها، ويتقنون عملهم على أحسن وجه، ويأخذون أتعابهم حلالاً زلالاً، ومنه كان سعر سيارة المرسيدس غالياً. وأعجبتني جملة سمعتها من مدير مشفى في عسير، أنه قال: إنني أعتبر أن الإنسان له خمس حواس، والمال الحاسة السادسة. ومن دولة الإمارات كرر هذا المفهوم أحدهم فقال لي: من يكتب عندنا لا نغير في كلماته قبل استشارته، ثم حقوقه المالية، فهي أكثر قضيتين حساسية للكاتب. وهي سياسة حكيمة من الجريدة. «ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً وما يذكر إلا أولو الألباب.»