بين حين وآخر تلتقي عقارب الساعة الثلاثة ثم تفترق عابرة مسافات وأزمنة مقاسه وهكذا الحال كل يوم دون كلل أو ملل.. كذلك الحال لحسناء اعتادت يومياً على ارتشاف قهوتها الساخنة على أحد مقاعد حديقة منزلها منصتة إلى سكون الشجر وحفيفها ومترقبة لتحليق الحمام بالأفق، اعتادت دائماً على القبوع بين أربعة جدران وسقف وقاع تشعر بأوساطها بحلاوة الحياة أحياناً وقسوتها الصامتة أحياناً أخرى ولم تكن عيناها ترى أبعد من ذلك. رسمت حدود لمملكتها بين أوراق الزمن وعلى حافة سلالم ذهبية تصعد بها إلى العُلا. أنثى بشعرها الطويل وعنقها العاطر وخصرها الناسف وشفتاها الورديتان الممتلئتان دفء اعتادت رؤية جسدها على صفحة المرآة فتبتسم لها وتسعد لإدراكها أن مرآتها عمياء وإلا لما وقفت أمامها تتأمل جسدها المتمايل كغصن تهزه نسمات الهواء العليل ولم تدرك يوماً أن لباسها الذي يغطي جسدها ويحميه ستنجذب الرياح نحوه لتحاول تمزيقه. جاءتها العروض يوماً لتخرج بعيداً عن سجنها المحبب لها فهرولت دون تفكير ومع أول وجه قابلته تتضح لها حقيقة جلية مفادها أنها لم تكن يوماً قارئة فنجان فتقرأ ماستواجهه وإلا لما كانت قابلت وجهاً كهذا ارتسمت بملامحه صورة تختبئ خلفها أقسى المعاني، لم تفهم منها سوى أنها بداية غير مبشرة ولكنها ستواصل دون قيود فذلك الوجه جذبها بتفاصيله المموهة وإشراقاته الساحرة فحاولت سبر غور هذه الإطلالة علها تجد ما تبحث عنه في الأعماق وتصبوإلى الأمان.. ولكن تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن.. انقشعت السحب وظهرت الحقيقة بلباسها فأيقنت أن أنياب الشر تبحث عن جسدها لتنهشه وعليها أن تخشى ذلك. بحثت الحسناء عن السعادة والأمان دون إدراك لمكامنها وعجزت أن تقسم قلبها إلى نصفين أحدهما أخضر فارع ودافئ والآخر يابس وبارد. أنثى كاملة الأنوثة بداية، وبعدها واجهت ظروفاً جعلتها تشعر بنصف أنثى ونصف قلب. اعتادت الاحتفاء بمرور برهة على دوي ضحكتها ولم تتفاجأ بعدها حينما احتفت بمرور حقبة من الزمن على خروجها من ماض أسود إلى مستقبل مخيف ولكنها مازالت محافظة على أنوثتها. مرة أخرى اصطدمت بمن يشد شعرها الطويل ويعض أناملها الناعمة ويرمي بالحجارة أمامها كي تتعثر وتسقط تحت قدميه وبالرغم من ذلك فهي تتخطاها مغمضة العينين وبين عثرة وأخرى تمسك أطراف شعرها الأسود كالدجى وتسحبه أمامها لتطمئن. واصلت الحمشي حتى وصلت لحافهتعتلي صخرة مهتزة قد تهوي بها إلى الهاوية أو تقذف بها إلى الأفق حينها تمنت لو أنها تعود إلى سجنها المنيع وسجانها العنيد لتحتمي بهما، ووجدت نفسها أمام مرآة الحياة حسناء أخرى تماماً كانت ترتدي البراءة وعرتها قلوب جائعة. أحاطتها من كل جانب وأفقدتها الإحساس بالأمان ولكن.. وبالرغم من هذا وذاك مازال طولها الفاضح يكشف عن كبرياء المعاناة ومازال دفء قدميها يقطن آثار خطاها وهي هاربة من مصير محتوم عليها إذا استسلمت له. مازالت أنثى بالرغم من خروجها من سجنها وبالرغم من شعرها الخفيف وأناملها المتقرحة ووجهها الشاحب. أصبحت أنثى متفرعة ومشتتة تحملها قدميها إلى أراضٍ لاتعرفها وتعبر أنفاق الحياة دون تجاهل لأنوثتها التي تعلنها تفاصيل جسدها وقلبها النابض بالحنين إلى مملكتها، ومازالت تبحث بين حروف الكلمات وأرقام الأيام والشهور والسنين عن الأمان خارج أقفال سجنها. ومازالت رغم كل شيء تلتقيه أو تصطدم به أنثى مجردة من الإحساس بالتعري وإن تمزقت كسوتها وتحفرت أقدامها وشحب جلدها.. نعم.. أنثى ومازالت!!