كنت في زيارة صديق لي وعندما خرجت من عنده مشيت بجانب منزل قد عنيت البلدية فيه كأفضل ما يمكن فزرعت عشرات الأشجار على امتداد سور المنزل، ولكنني صدمت حينما رأيت الشجر وقد احتزت رقابها أو قصت من نصفها، فهي واقفة رافعة بقاياها مثل المصلوب. عددت الأشجار المذبوحة فزادت عن عشر شجرات كل واحدة بعمر عشر سنوات على الأقل، وأمام مدرسة ثانوية للبنات رأيت أكثر من ستة عشرة شجرة قد قطعت درساً تطبيقياً للطالبات أن يقضين على الخضرة والشجر. ومن أعجب الأشجار التي رأيتها لم تكن البرسوبس المتهم البريء بل شجرة كينا ،وكان غلظ الشجرة يوحي بعمر أكثر من ثلاثين سنة. وفي ألمانيا كنت في زيارة صديقي الذي آثر أن يبني بيته في الغابة داخل بلجيكا وقد انتصبت أمام المنزل شجرة عملاقة قال لي لا يمكن أن نقلم فرعاً بدون إذن البلدية. وفي ألمانيا عملت حادثاً فخسرت سيارتي بسبب النعاس وكانت في أول أيام قيادتي للسيارة فكسرت شجرة فأرسلت البلدية تقاضيني بمبلغ مائتي مارك يومها، ومع أن بلادهم غابات ولكن كل شجرة محصاة في كتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة ولها اسم وتاريخ وسجل عائلي. ومن أعجب ما روى لي أحدهم إن صحت روايته أن شجرة في مشفى قطعت عندنا لأن الممرضات والفنيين المتعاقدين يجتمعون تحتها في انتظار السيارات التي تقلهم إلى بيوتهم فكان هذا الاجتماع سبباً في القطع؟ وفي يوم كنت في زيارة أخ فاضل فلما خرجنا رأيت أثر شجرة مقطوعة فلما سألته قال إنها تسقى بماء خبيث يعني ماء المخلفات. ونحن نعلم أن سماد الشجر هو روث الحيوانات ولا تشرب الشجرة ماء الورد وعطر الريفدور؟ نعم إنها جريمة يجب أن يدافع فيها عن كل غصن وفرع أخضر. وبالطبع أصاب بالحزن الشديد عند سماعي هذه الأخبار لعدة اعتبارات: أولاً المبالغ والأتعاب الهائلة التي بذلتها البلدية حتى استطاعت أن توقف الشجر بهذه الغزارة والكثافة بحيث تمر أحيانا في بعض الشوارع في أنفاق من الأشجار. وقطع هذه الأشجار معناه أن المبالغ التي أنفقت أحرقت مثل لو جاء حريق فأكل غابة. وحزنت ثانيا أن هذه الظاهرة ليست عملاً فردياً يتيماً بل عمل أبله غبي مكرر يصل إلى حافة الجريمة. ففي مكان سقى القوم الشجر السم فمات مسموماً وفي مكان آخر قطعت الأشجار إما من القاعدة إخفاء للجريمة أو فعلها أشقى القوم فقطعها من منتصفها ولا يخاف عقباها فلو يعرف أن هناك من سيحاسبه على الجريمة ما فعل. وحزنت ثالثاً للتبرير فقد قال لي صاحبي إنه حاول مناقشة الرجل الذي قطع الأشجار العشر وكان يقص كل سنة ما يحلو له وهي ليست في داخل بيته بل خارجه على حافة الرصيف حيث عنيت البلدية في تزيين كل الشوارع وإنفاق المياه الهائلة حتى تقف الشجرة وتلقي بفيئها فيهلكها الرجل في دقائق وعمر الشجرة عشرون سنة. وهو يتعلل بأنها توسخ ما تحتها وأنه لا يريد أن يجعل من فيئها مكاناً لوقوف السيارات؟ وحزنت ثالثاً أن هذا التخلف في الوعي البيئي كارثة كاملة لأن بريطانيا أو ألمانيا فيها الشجر الطبيعي غابات ساحرة وأنا في نيوجرسي في أمريكا ذهلت من كمية الغابات والمياه المتدفقة أما عندنا فالجو صحراوي جاف وهذا يعني أن من يقتل شجرة يحرق غابة. وحزنت مرة أخرى عندما روى لي صديقي عن ابنه الموجود في لندن حينما قالت له أمه إن الشجرة الموجودة في فناء داركم الخلفي قد اعتمت المكان من شدة ظلها فهلا قلمتم الشجرة قال الولد: لا أستطيع ولا بد من موافقة البلدية وإحضار جراح الشجر هكذا يسمونه. والمهم بعد أن حضر جراح الشجر قام فقلم بعض الفروع البسيطة وهم يعيشون في بلد ماؤه كثير وشجره هائل. إنني أروي هذه القصة وأنا حزين فأعرف داء التخلف وآثاره المدمرة وأن مشكلتنا ليست سياسية بل مشكلة وعي وتخلف حضاري حتى يرتفع فنرتفع مع قامات الأشجار الخضراء. وجاء في الحديث (أنه لو قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة فليغرسها) أما نحن فنقطع شجراً باسقات.