طرح التفكير في الله والكون أمام المفكرين واحدة من أهم النقائض التي شغلت الكثيرين على امتداد العصور وخلاصتها هي: كيف يمكن القول ان الله كائن لا متناه والقبول في الوقت ذاته بالقول بوجود آخر هو الكون، إذ أن ذلك من شأنه أن ينفي هذه اللانهائية. ففي الفلسفة كان إسبينوزا أهم من حاول حل هذه المعضلة. وفي كتابه الأشهر (الأخلاق)، عرض اسبينوزا قضايا الكتاب على طريقة هندسة أقليدس، إذ يبدأ بالتعريفات ومجموعة من المسلمات، ومنها يستمد المجموعة الكاملة من النتائح اللازمة عنها مع ما تقتضيه من براهين وتفسيرات. وفي الباب الأول من الكتاب يبحث اسبينوزا قضية (الله) ويعرض ستة تعريفات تشتمل تعريفاً للجوهر وتعريفاً لله وفقاً للاستعمال التقليدي للفظ في الفلسفة المدرسية. أما المسلمات فيضع منها سبعة فروض أساسية لا يقدم لها تبريراً آخر، ومن هناك يكون كل ما علينا هو متابعة استخلاص النتائج كما هو الحال عند اقليدس. ومن تعريف اسبينوزا للجوهر يدلل على أنه يجب أن يكون لا متناهياً إذ أنه لو كان محدوداً بشيء لكان لتلك الحدود تأثير عليه. كما يدلل على أنه لا يوجد إلا جوهر واحد، وليبين لنا أن هذا الجوهر هو الله، وأنه كذلك بالمثل الكون كله. فطبقاً له، فإن الله والكون هما الشيء ذاته ، وأن عقولنا البشرية الكثيرة هي جزء من العقل الإلهي، وتلك هي نظرية شمول الألوهية عند اسبينوزا. ويؤكد برتراند رسل أن العرض الذي يقدمه اسبينوزا ليس إلا ممارسة بارعة وعبقرية للمنطق الاستنباطي. أنظر (حكمة الغرب ج2). لقد بنى اسبينوزا فلسفته كلها على مذهب شمول الإلهية هذا، ولكن مأساته هو أنه وقع في خطأ كان قد حذر منه بقوله: إن قوام الخطأ والبطلان هو افتقار إلى الإدراك تنطوي عليه الأفكار غير الكافية. وقد أثبت الزمن أن منطلقات اسبينوزا لم تكن كافية، ففي زمن اسبينوزا كان الفلاسفة لا يزالون يؤمنون بأن الكون لا متناه، وانه أزلي أبدي إلى أن ثبت في القرن العشرين انه محدث ومتناه وفقاً لنظرية الانفجار العظيم. ومن العجيب أن اسبينوزا كان يقول ( ليس في الإمكان أبدع مما كان) تماماً مثل الإمام أبي حامد الغزالي الذي عاش قبله بقرون ، وكان الامام قد جادل الفلاسفة في كتابه “تهافت الفلاسفة”: بأن الكون محدث وأنه متناه، وان نهايته فرع حدوثه اعتماداً على ما جاء في القرآن الكريم. وهكذا فمع أن حل اسبينوزا للأحجية ثبت أنه خاطئ لاعتماده على مسلمات خاطئة إلا أن الدين لم يقدم شيئا في هذا الباب يشرح الأحجية، وسيقابل السائل دائماً برد روتيني، هو أن ذلك من أمور الغيب التي لم يفصلها الوحي، ومن ثم فلا يعلمها إلا الله. أما المتصوفة الهنود والمسلمون، على اختلاف دياناتهم، فقد جاؤوا بحل مبتكر خلاصته أن لا حقيقة لهذا الكون وما فيه من أشياء وأنهم ليسوا إلا وهماً وخيالاً. وان السالك في طريق التصوف قد تنكشف أمام عينيه الحجب عما يصرون على أنها الحقيقة الوحيدة، وهي أنه لا وجود لشيء غير الله.وهذا في رأي البعض توحيد محض وإن أصر الفقهاء أنه الحلولية أو وحدة الوجود. والحال أن العالم لو كان وهما فمن الذي يتوهمه؟ حد تعبير الصديق سبأ انعم غالب. وأقول إن الكون ليس سوى آيات تتحدث عن بارئها، وهو بمثابة مصدر إحساس أعظم يضاف إلى الحساسية الجسدية، ويؤازر الإنسان في رحلته إلى العلم بالله، والله أكبر.