الحلقة الثانية ما الذي يدفعنا إلى الحديث عن الوصايا العشر وقدسية الحياة في مقام الحديث عن مكارم الأخلاق؟ وهل يُقبل علماً وعقلاً أن تكون الوصايا العشر مفتاحاً كاملاً وشاملاً لمعرفة مشكلات العصر، وحلها في العالم اليوم؟ ولعلي معني بالإجابة على ذلك بالقول: أن قضيتنا الكبرى هي الحياة والبقية سواء أردنا بهذه الحياة العاجل منها في حرث الدنيا، أو أردنا الآخرة، ولما كان عطاء رب العالمين ممدوداًً للأمرين معاً، فإن الحياة تصبح مشتركاً للخيرية المرجوة عند هؤلاء وهؤلاء، تدبر في هذا المراد من المعنى في الآيات 18 21 بسورة الإسراء. قد لا نخطئ الصواب إذا قلنا: أن الهم الأكبر في العالم اليوم هو الاهتداء إلى ما يبقي الحياة ويحفظ كرامة البشر في الأرض، ومما لا شك فيه أن العلم واحد من السبل المبتغاة لتحقيق هذه الغاية غير أن واقع العلم وآفاق غده القريب والبعيد تخرجه من دائرة الانتفاع بفتوحاته وتطبيقاته التقنية بمعيار الخيرية المرجوة للحياة والبشر، وتبحث عن غيره للاهتداء به إلى ذلك وهو ما يستدعي الأخلاق للاهتداء بمكارمها في الوصف والتقييم والحكم على خير ما يصلح للحياة وتصلح به، استدعاء الأخلاق يعني ضمناً وصراحة الدين، باعتبارهما الدين والأخلاق عنواناً واحداً لخير الحياة وكرامة البشر، وبأي صيغة وضعت لتعريف المشكلة فإن المعنى يتوحد على حقيقتها الكبرى في الاسم الأعم للمشكلة والحل وهو: الحياة. نقترب من إدراك الصورة المشهودة للويلات القائمة والقادمة على الحياة والأحياء، إذا نحن تعرفنا على جزء من المشهد الذي يصنعه البشر بالعلم وتطبيقاته الحديثة في مجالات الفضاء والحيوية والنووية، حيث العمل على تدمير الأرض وإهلاك الحرث والنسل يستنزف الثروات والموارد في سبيل امتلاك أسلحة الدمار الشامل، والتفوق في فنون القتل الكلي والجزئي للحياة والأحياء، إن توظيف جزء يسير من ميزانيات التسلح النووي في مجال الانتفاع به طبياً يكفي لصناعة الفرحة لكل الناس، وإسعاد كثير من الأشقياء بأمراض تتهدد حياة البشر، وأهمها السرطان. يبدو المشهد في جانب آخر من جوانبه أكثر بؤساً فمن أي زاوية تم النظر إلى الخارطة تستأثر بالبحث العلمي والتطور التقني، وتحتكر استثماراته ومنافعها على صعيد العلاقات الدولية بصورة تحجب فرصة المعرفة، ناهيك عن فرص المشاركة أو المنافسة على جل إن لم نقل كل العالم. تستبعد القلة الكثرة الغالبة من مسرح العلم وتقنياته، بباعث ومقصد الاستعباد بالاستعباد، من خلال الاستئثار بالمعرفة واحتكارها لكي تستفرد الأقلية بقوة العلم وتقنياته للهيمنة على العالم والسيطرة على الأرض، وبعبارة أخرى إن العلاقة السائدة في عالم اليوم، بين القلة المتقدمة علمياً وسائر العالم هي علاقة السادة والعبيد، مما ولد ظاهرة رئيسة على صعيد الحياة الدولية سياسياً واقتصادياً، هي الميل إلى ما يسميه بعض الخبراء، فك الارتباط القهري لبلدان العالم الثالث مع الاقتصاد العالمي أو ما يسميه آخرون الفصم الإجباري forced Deliking حيث لم يعد ثمة خيار سوى استبعاد البلدان المختلفة من حلبة البحث والتطوير التقني أصلاً، ودع عنك التقنية الرفيعة، ودفعها دفعاً إلى مؤخرة المؤخرة، بكل وسيلة ممكنة بما فيها القوة العسكرية، وبالشرعية الدولية وبدونها، وقد كان العراق ضحية المحاولة الأولى لتوطين العلم وتقنياته، ولن تنجو إيران من مصيره أبداً، إلا بما شاء الله لها من سبيل الرشد إلى خير الحياة. يمثل هذا الوضع بحد ذاته تحدياً أخلاقياً لكل الناس عامة، وللعرب منهم خاصة، ولا أبالغ إن قلت: أنه يؤسس بنيان الأخلاقية في العالم والعصر ذلك أن منظومة الاستئثار والاحتكار والاستعباد لا تقتصر على مجال العلم وتقنياته فحسب بل تمتد إلى كل جوانب الحياة وشئون معايشها في الأرض والسماء وما بينهما وبين الناس، ولا شك أن هذا الوضع يستدعي الحقائق والحقوق في تدافع المستكبرين والمستضعفين على الحياة بكرامة، هذا يعني مما يعنيه الأخلاق، وتحديداً مكارمها في أمرين: الأول: إحياء الإنسان لمسئوليته في التعلم والمخلوقة في جده بأعضاء السمع والبصر والفؤاد، إذ لن يستأثر بالعلم أحد أو يحتكره مادام كل إنسان وأي إنسان مفطور خلقه على علم الأسماء وعلم البيان «خلق الإنسان علمه البيان» “الرحمن” الآيتان 3 4. الثاني: إعلاء الحق المقدس للحياة والأحياء إذ ليس من الخير في قليل أو كثير التنافس على الشر، أو التسابق على جبروت القتل والإفساد، بأي ذريعة أو وهم خصوصاً في مجالات التسلح وكلا الأمرين موصولان بالصراط المستقيم سبيلاً إلى قدسية الحياة بالفرقان المبين في الوصايا العشر، وإتمامها بالأحسن من مكارم الأخلاق، تدبر في هذا، الأقوم مما يهدي إليه القرآن في الآيات من 23 38 بسورة الإسراء. قدسية الحياة: بركات الذكر والشكر رغم الضرورة المنهاجية في تعريف مفاهيم الذكر والشكر والبركة، إلا أن المقام لا يتسع لجهد كهذا، خصوصاً إذا غاب التأصيل لها في معارفنا السائدة بمرجعية العلم أو الدين، قديماً وحديثاً، ومع ذلك سأعتمد على حدود ما نعرفه من دلالات هذه المفاهيم، لأقول بأن الذكر هو ما يشكل وعينا بأنفسنا وإدراكنا لوجودنا حسياً ومعرفياً وعقلياً، وبعبارة أخرى، فإن الذكر هو الوعي الإنساني بالحياة حيث الوعي هنا حركة بين التاريخي والمحدث، أما الشكر فهو الاعتراف بالجمال والجميل ورده بأحسن منه أو مثله، وأياً كان اختلافنا في تعريف هذه المفاهيم وتحديد دلالاتها فإن المتفق عليه من ذلك هو ما يتجسد منها عملياً في حياة الناس من معارف وأعراف، خاصة وعامة، فماذا نقصد بالبركات؟ ربما يكون كتاب: البركة في خدمة المؤسسة الصادر بالدار البيضاء عام 1999م للكاتب الرشيد بن رشد، هو الكتاب الوحيد الذي يزاوج بين شيئين متنافرين متباعدين في وعينا اليوم، فالبركة لفظة تحيل إلى شيء يتعذر رسملته وتقدير قيمته في حسابات الجدوى الاقتصادية للمشاريع الاستثمارية والمؤسسة بنية متآلفة من الأموال والأفكار والأعمال، في إدارة محكومة بقوانين صارمة، ولن نستعرض ما جاء في الكتاب، إذ يكفيه أهمية أن عنوانه يفتح حقلاً جديداً للبحث في وسائل تحقيق التواصل بين البركة بوصفها هبة الخالق ذي الجلال والإكرام، وبين المؤسسة بوصفها جهداً إنسانياً جامعاً للإبداع في العلم والعمل. إن المعاني اللغوية للاشتقاق من الأصل الثلاثي «ب ر ك» تفيد بما يدل على الوقوف والثبات والإقامة ويعلق الدكتور خالد حاجي علي مفهوم البركة كما ورد في كتاب الرشيد، بالقول: ولعل ما يصلح به فعل الذكاء الإنساني هو شيء ليس من جنسهما، إذ أن كل إبداع على مستوى الفعل والحركة وكل تطور لن يفضي سوى إلى فعل وحركة، لذلك يحتاج الفعل وتحتاج الحركة إلى شيء يكتسبان به البركة الشيء الذي يصبغ السكينة والاطمئنان على الفعل ويضفي المعنى على الحركة، فدعونا إذاً نقف عند حدود هذه الدلالات القاصرة على الوفاء ببيان المعنى المقصود في مفاهيم الذكر والشكر والبركة، فلماذا اخترنا هذه المفاهيم في مقام الحديث عن مكارم الأخلاق وقدسية الحياة؟ التنمية والتنمية المستدامة من المفاهيم المستحدثة باللسان العربي من ألسُن أعجمية، دعوني أؤكد أولاً بأن المغايرة هنا لا تحمل استكباراً قومياً للسان، ولا استبعاداً لإنسانية الألسن غير العربية، فما أريده هو الوضوح المعرفي، عملاً بمقولة مأثورة عن ماوتسي تونج هي: إذا عرفنا ما نريد سهل العمل فماذا نريد من مفاهيم التنمية والتنمية المستدامة؟ إن التنمية فعل توسع يُقصد به استنقاذ الإنسانية أفراداً وقبائل وأُمماً من يد البؤس والشقاء في الأرض، والإفضاء إلى التنعم فيها بواسطة ما تتيحه من وسائل وإمكانات والتنمية المستدامة، هي التنمية بإضافة ما يبقيها مستمرة من جهة ومتزايدة من جهة أخرى، فهل نريد القول بأن البركة مفهوم بديل للسائد بمفهومي التنمية والتنمية المستدامة؟ بالطبع لا، فالتنمية عملية تقرب من معاني، النماء والإنماء والتزكية واستخدامها هدف خير وغاية حقيقة بالسعي والجهاد، لكن كيف السبيل إليها؟ وبم؟ نحاول هنا، أن نقول: بأن أخلاق الإنسان الحميدة هي السبيل والوسيلة، ولا مناص من التشديد على أن الأخلاق المقصودة هنا، في الحياة، قولاً وفعلاً، دون انتفاء مالها من تجريد قيمي، وما يتصل بها إنسانياً من رفض أو قبول من ناحية ما فيها من إلزام والتزام، دعونا نعود إلى قدسية الحياة لنذكر بأن الغاية الكبرى هي الحياة والبقيا، وأن من وسائل تحقق هذه الغاية التنمية والتنمية المستدامة، وأن من الخير للغاية والوسيلة معاً، معرفة كل التصورات النظرية للمشكلات والحلول، والانتفاع من نجاحات التجارب الإنسانية في الماضي والحاضر بدون تعصب أو انغلاق، وأول ما ينبغي الوقوف عنده بروية وتفكير هو الجواب على سؤالنا: لماذا التنمية ولماذا استدامتها؟ وفي رأيي أنها من اجل أن يحيا الإنسان ويتنعم بخيرات الحياة في الأرض بكرامة وإكرام. لا شك أن هذا الحق للإنسان يشمل كل إنسان وأي إنسان في كل أرض وعصر، ولقد تحقق للإنسان بفضل التقدم العلمي والتطور التقني في مجالات العمل والإنتاج وفرة في الغذاء والكساء، ومرتبة في الغنى المادي أقرب إلى الفحش والترف، ومع ذلك فإن العالم تعصف به أزمات اقتصادية شاملة، ويستبد به هلع الخوف من غد زاحف بالفقر والإفقار فلماذا تزداد الأزمات كلما توسع الإنتاج وازداد العائد من أرباح الاستثمار؟ ولماذا تزداد المؤامرات الخفية، والحروب الطاحنة، بين الدول الغنية إلى مصادر المواد الخام وأسواق الاستهلاك؟ بالتأكيد، أن العالم لا يحتاج إلى مزيد من علوم التنظيم والحواسيب والأرقام أو على مزيد من رؤوس الأموال ومهارات اليد العاملة، فماذا الذي تحتاجه التنمية إذاً؟ دعونا نتوافق جدلاً، على أن القاعدة الذهبية للحقوق المشتركة بين البشر هي: عامل الناس بما تحب أن يعاملوك به، لكي نؤسس على هذا التوافق ما نريد قوله عن بركات الذكر والشكر في أبعاده الثلاثة المتضمنة في المناحي الآتية والتي هي موضوع الحلقة القادمة والأخيرة من هذا المقال.