اولا: مفهوم التنمية المستدامة يمكن القول :إن التغير هو نقطة انطلاق التنمية المستدامة و قوة استمرارها. فبدون التغير لا يكون للعلم و المعرفة اي اثر. يحدث التغير لأن الانسان تعلم شيئا جديدا لم يكن يعرفه او انه تعلم من اخطائه او انه جرب ما تعلمه. فإذا ما تم اغلاق باب التغير لأي سبب من الاسباب فإن ذلك يعني ببساطة اغلاق عملية التنمية المستدامة. اذن يمكن القول: ان التنمية المستدامة لا تتحقق الا من خلال التغير اي التغير الى الافضل. و الدليل على ذلك ان المجتمعات التي تقبل بالتغير و تستطيع ان تديره بكفاءة هي المجتمعات التي تحقق التنمية المستدامة و ذلك بعكس المجتمعات التي تغلق باب التغير.. يمكن تحقيق التنمية المستدامة من خلال التغير اولا ثم التأقلم ثم التعلم ثم الابداع. فحتى تنطلق عملية التنمية المستدامة فلابد من حدوث تغير ، اي تغير ، اي الخروج من المألوف. ألا ترى ان القبائل التي تقدس اعرافها و تقاليدها و لا تسمح حتى في مناقشتها ظلت متخلفة منذ ان خلقها الله و إلى اليوم؟. ان التغير امر ضروري لإحداث التنمية المستدامة لأنه ضروري للبحث عن حلول للمشاكل التي تسعى التنمية المستدامة لحلها. والتغير كذلك ضروري لأنه ما من مشكلة الا لها اكثر من حل بعضه افضل من البعض الاخر. و لذلك فقد يتم اللجوء الى حلول للمشاكل و لكن هذه الحلول ليست حلولا كاملة و توجد حلول اخرى لم يتم تجربتها فالتغير هنا يكون ضروريا من اجل البحث والحصول على افضل الحلول. عندما يحدث التغير ولو من بعض افراد او منظمات المجتمع فإن ما ينتجه التغير من فوائد يتمثل في تجربة الحلول المفيدة سيفرض على الاخرين التأقلم مع الوضع الجديد و استيعابه حتى ولو كانوا لم يقبلوا به منذ البداية. و من المؤكد ان الجديد المفيد سيفرض نفسه على الجميع ولو بعد حين، وفي هذه الحالة فانه ليس من الضروري ان تبدأ عملية التنمية المستدامة من خلال الاجماع على التغير و ان كان ذلك افضل فقد تتحقق من خلال جهد ومحاولة الاقلية. و لا شك انه لا يقدر على فعل ذلك الا الموهوبون، ومن ثم فانه يمكن القول بان الموهوبين هم قاطرة التنمية المستدامة من خلال قدرتهم على رؤية الاشياء التي لا يقدر على رؤيتها غيرهم و من خلال شجاعتهم المتمثلة في مخالفة العرف السائد و تحمل نتائج ذلك. يترتب على عملية التأقلم التعلم. المقصود بالتعلم هنا ليس فقط انتاج المعرفة اي التعرف على طبيعة الاشياء والعلاقة بينها بهدف الاستفادة منها و لكن كذلك ايصال نتائج ذلك الى عامة الناس او على الاقل الى غالبيتهم. فهم الذين سيستخدمون المعرفة الجديدة في انشطتهم المختلفة مما يوسع من فوائدها و بالتالي يحقق التنمية المستدامة. و من خلال التفاعل بين عملية خلق المعرفة و استخدامها على ارض الواقع يتولد الابداع والذي يتمثل في الاستغلال الامثل لنتائج المعرفة الى اقصى حد، و في هذه الحالة يطلق التغير الذي هو نقطة البداية لعملية التنمية ، عملية تغيرات لا نهائية يغذيها الابداع المستمر الذي يشارك فيه اكبر عدد ممكن من افراد المجتمع. و يتم ذلك من خلال الية خلق بيئة جديدة لا تعمل على فرض نفسها و انما على خلق بيئة جديدة افضل منها. و ما ذلك الا حقيقة التنمية المستدامة. و يمكن القول بأن ما حدث من تغير نتيجة لثورة الشباب في اليمن يمثل نقطة انطلاق لعملية التنمية المستدامة. لكن ذلك يتطلب ان يتم توسيع عملية التغير لتشمل كل الجوانب الاقتصادية والسياسية و الاجتماعية و الثقافية. ومن اجل تحقيق ذلك فإن على شباب الثورة ان يستوعبوا مفهوم التنمية المستدامة لانه يعتبر من المفاهيم الاجتماعية الجديدة نسبيا. انها تعني التغير الشامل و المتزامن في كل من الجوانب الاقتصادية و السياسية و الاجتماعية و الثقافية. و قد اعتمدت الاممالمتحدة ما يقارب 48 مؤشرا على انطلاقة التنمية المستدامة. ولعل من اهمها مستوى الفقر و المساوة في التعليم و تحسين الخدمات الصحية و الحفاظ على البيئة و توفير فرص عمل للقادرين على العمل و حماية الحقوق الاساسية للإنسان و المشاركة السياسية وحماية الهويات الاجتماعية و غيرها من المؤشرات. وعلى هذا الاساس فان مفهوم التنمية المستدامة يختلف عما كان يقصد بالتنمية في ادبيات التخطيط الاقتصادي سواء المركزي او المختلط و الذي كان سائدا في النصف الاول من القران الماضي والذي كان الاتحاد السوفيتي و الهند احد اهم الامثلة على ذلك. وكذلك فإن مفهوم التنمية الاقتصادية المستدامة يختلف كثيرا عن مفهوم التخطيط التأشيري الذي كان سائدا في النصف الثاني من القرن الماضي في بعض الدول الاوروبية الغربية و على راسها فرنسا. فمفهوم التنمية المستدامة الحديث قد اتسع ليشمل مجالات اخرى غير اقتصادية و لها طابع سياسي و اجتماعي و ثقافي. و بذلك فان مفهوم التنمية المستدامة قد اتصف بالشمول. و لقد اثر ذلك على كل من الاهداف و الوسائل و المستهدفين و الفاعلين والمشاركين. ومن المهم هنا ان نوضح ان مفهوم التنمية المستدامة قد توسع ليشمل التعامل مع مشاكل المناخ اولا ثم مع مشاكل استغلال الموارد القابلة للنضوب و على رأسها النفط و الغاز. لقد ترتب على تشجيع التحول الى الصناعة الواسع تجاهل اثر ذلك على المناخ سواء داخل الدول الصناعية او على مستوى العالم ان اصحبت الحياة البشرية على وجه الارض لا تطاق. ولقد ارتكب الانسان خطأ فادح في عدم اهتمامه في الاثار السلبية لتأثير التلوث على الحياة الانسانية و التكاليف الباهظة التي تتحملها كل المجتمعات الانسانية الى ان اصبحت كبيرة و من الصعب التعامل معها. و من الامثلة على ذلك الاحتباس الحراري التغيرات المناخية المفاجئة و تاثيرها على الغذاء و الهواء. و لقد ترتب على ذلك ظهور الامراض و تفشي الكوارث الطبيعية الى درجة اصبحت تهدد الحياة هذا الكوكب و على وجه التحديد الحياة البشرية. و في اطار مناقشة اسباب و نتائج التلوث اتضح بما لا يدع اي مجال للشك ان مواجهة ذلك يتطلب وجود معالجات غير تقليدية. فمن الناحية الاقتصادية فإن آلية السوق غير قادرة على التعامل مع هذه الظاهرة نتيجة لوجود ما يطلق عليه الاقتصاديون بظاهرة الوفورات الاقتصادية السالبة. و التي تعني انه من غير الممكن تحميل المتسبب في التلوث النتائج المترتبة عليه بل انه في حالات كثيرة هناك فصل واضح بين المتسبب و المتأثر، ومن ثم فإن عملية التقدم الاقتصادي تصبح غير قابلة للاستمرار اذا ترك لألية السوق تنظيم عملية التعامل مع ظاهرة التلوث،و من اجل التغلب على ذلك فإنه لا بد من ايجاد وسائل و طرق جديدة لا تلغي آليات السوق و لكنها تكملها. و من ثم فإن التنمية المستدامة لا بد وان تأخذ ذلك بعين الاعتبار. وبالمثل يمكن القول بان ما تمخض عن استغلال غير امثل وغير عادل للعديد من الموارد القابلة للنضوب مثل النفط و الغاز وبقية المعادن و كذلك الماء من اثار سلبية قد حتم على العديد من المجتمعات ان تعيد نظرتها للكيفية المثلى لاستغلال هذه الموارد. وتطلب ذلك ادراج التعامل مع موضوعات كهذه في مفهوم التنمية المستدامة. فنظراً لطبيعة هذه الموارد فقد تكون هناك اغراءات لاستنفادها وتبذيرها و بالتالي الاضرار بحق الاجيال القادمة في هذه الموارد. هذا من ناحية و من ناحية اخرى فان طبيعة هذه الموارد تجعل عملية احتكارها وعوائدها من قبل قلة متنفذة ممكنا مما يعني حرمان غالبية افراد المجتمع من الاستفادة منها، بل انه في حالة جديدة فإن هذه الموارد قد مكنت النخب الحاكمة من استغلالها لقمع الشعوب واستعبادها و اذلالها و بذلك فبدلا من ان تكون هذه الموارد وسيلة لتحقيق التنمية الاقتصادية فقد اصبحت وسيلة لاستمرار التخلف بل و تعميقه. وبدمج كل ما تمحض عن هذه التجارب قد مثل صلب مفهوم التنمية المستدامة، و على هذا الاساس فإنها توسعت الى جانب المجالات الاقتصادية المجالات السياسية والاجتماعية و الثقافية. اذن لم تعد التنمية المستدامة تعني فقط زيادة حجم الثروة وانما كذلك تمكين كل افراد المجتمع من الاستفادة منها. فالتنمية المستدامة ,اذن, هي تلك التي يستفيد منها كل افراد الشعب. و بدون ذلك فان ما يمكن ان يطلق عليه تنمية اقتصادية اي زيادة حجم الثروة في المجتمع قد يكون ظاهرة مؤقتة اذا كان المستفيد من ذلك بعض افراد المجتمع. لان بقية افراد المجتمع الاخرين لن يقبلوا بأن يكونوا متفرجين ما لم يتم ادماجهم في عملية التنمية المستدامة بشكل ايجابي. اذن التنمية الاقتصادية المستدامة هي تلك التي تصل الى كل افراد المجتمع بشكل او بآخر وتعمل على تحسين مستوى حياتهم جميعا. و من اجل تحقيق ذلك فانه لا بد من العمل على محاربة الفقر بكل مظاهره و تجلياته، و في هذا الاطار فان محاربة الفقر من وجهة نظر التنمية الاقتصادية المستدامة لا يقتصر على تقديم المساعدات المالية او العينية للفقراء و انما يجب ان يتم التركيز على تمكين الفقراء من ان يساعدوا أنفسهم ويخرجوا من دائرة الفقر و العوز. و لا شك ان اهم وسيلة لتحقيق ذلك هي التعليم و التدريب. وعلى هذا الاساس فان مفهوم التنمية المستدامة قد ارتبط و بشكل كبير بعملية التنمية البشرية، و على وجه الخصوص تلك التنمية البشرية الموجهة للأسر الفقيرة والافراد المنتمين لها لأنهم بدون تقديم المساعدة الكافية لهم فلن يكونوا قادرين على الخروج من دائرة الفقر المدقعة. و كذلك فإنه من اهم الوسائل لتحقيق التنمية المستدامة يكمن في العمل بكل السبل الممكنة على المستوى الجمعي على توفير الاحتياجات الاساسية للإنسان. لأنه لا معنى لأي حرية او كرامة لأي انسان يعاني من عجز في توفير احتياجاته الاساسية. و في هذا الاطار ينبغي ان نشير إلى ان العمل الجمعي اما ان يكون ناتجا عن الاكراه و الاجبار بحيث يكون هناك فرد او جماعة او قلة من افراد المجتمع هي التي تقرر و تجبر الاخرين على تنفيذ ذلك و اما ان يكون من خلال الاقناع و التوعية. و لا شك ان الاسلوب الاول لا يمكن ان يحقق التنمية المستدامة حتى ولو تصرفت هذه القلة بدافع حسن النية. فالانسان لا يستفيد فقط من الافعال الجيدة او الحسنة و لكنه يستفيد منها عندما يكون شريكا في الدعوة اليها و في تحقيقها. الاسلوب الثاني هو الذي يمكن ان يحقق تنمية مستدامة، ان تحقيق ذلك يتطلب الوصول الى التوافق الجمعي، و لا يمكن ان يتحقق ذلك الا من خلال تغليب العقل و المنطق و بناء التوافق الجمعي على اساسه و متطلباته. و على هذا الاساس فإن الحوار الجاد هو الذي يحقق ذلك. و حتى ينجح الحوار الجاد في الوصول الى التوافق الجمعي فلا بد و ان يكون مستندا الى فكرة التفاوض بين مختلف فئات ومكونات المجتمع. و من الواضح ان فكرة التفاوض تتضمن التنازل المتبادل. و من المؤكد انه ينتج عن التنازل المتبادل استحالة ان تحقق كل فئة من فئات المجتمع كل ما ترغب به و كذلك استحالة ان لا تحصل على اي شيء. فالكل سيحصل على شيء ما و ان كان اقل مما يرغب به. ولا شك ان ذلك افضل للجميع، اي افضل من ان يخسر الجميع كل شيء و لا يحصل احد على اي شيء، وتتحقق التنمية المستدامة من خلال هذه الآلية لأنه سيكون من مصلحة الجميع ان تمضي مسيرتها حتى في حالة وجود بعض الخلافات حول توزيع ثمارها بين مختلف افراد و فئات المجتمع. في ظل تحقيق ذلك تنجح التنمية المستدامة في التعامل مع كل ما يتعلق بخلق الثروة و وزيادتها وتوزيعها على افراد المجتمع بشكل عادل و مقبول، ولذلك فان عملية تحقيق التنمية المستدامة يتطلب توافر المتطلبات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية للنجاح في ذلك. ومن اجل فهم مضامين عملية التنمية الاقتصادية المستدامة فإنه لا بد من شرح هذه المفردات الاربع المكونة لهذه العبارة. فلفظ عملية يعني ان تحقيق التنمية الاقتصادية ليس حتمية تاريخية وإنما حالة انسانية اختيارية. فالتنمية الاقتصادية تعبير عن ارادة انسانية اي عن اختيار انساني. اما لفظ التنمية فيعني ان ما يقوم به البشر من اختيارات يتم من خلال تغليب الاحسن و الافضل، اي ان المجتمع الذي يسعى لتنمية نفسه يحرص على ان يكون التنافس بين افراده على الخير، اي التسابق على الخيرات ، اي على ما يفيد الانسان كل الانسان. ولفظ الاقتصادية يشير الى خلق الثروة المفيدة ، اي التي تحسن من حياة الانسان «قل من حرم زينة الله التي اخرجها لعباده والطيبات من الرزق» فإشباع الحاجات الانسانية و خصوصا البيولوجية من اكل و شرب و كساء هدف نبيل ينبغي السعي الى تحقيقه بكل السبل الممكنة. في حين ان لفظ المستدامة يشير الى ضرورة الاخذ بعين الاعتبار حق الاجيال القادمة في العيش الكريم كحق الاجيال الحالية بذلك سواء بسواء. ذلك ان تلويث المناخ قد يؤثر على حياة الاجيال القادمة. و كذلك فإن الاستخراج العشوائي للموارد القابلة للنضوب ( المياه الجوفية و النفط و الغاز) قد يتجاهل احتياج الاجيال القادمة لهذه الموارد،و من الممكن ان يحتكر نتائج التنمية قلة من افراد المجتمع و على حساب الاخرين الضعفاء. فالتنمية الاقتصادية المستدامة تعني اخذ كل هذه الجوانب بعين الاعتبار بهدف ايصال فوائدها الى كل افراد المجتمع و الى كل اجياله بقدر المستطاع. يتبع..