رأى الكواكبي أن العلمانية التي عرفتها الحضارة الغربية الحديثة ليست غريبة عن الثقافة السياسية للإسلام إن النقاش حول الثقافة السياسية يكون ناقصاً دون تقييم دور الدين، كمصدر للقيم الأساسية، ففي المجتمع العربي لا تزال مقولة عمر بن الخطاب: نحن قوم أعزنا الله بالإسلام ولا عزة لنا بغيره، تمارس حضورها القوي وتأثيرها البالغ على الوجدان العربي، فالدين يعتبر مكوناً هاماً في الثقافة السياسية في المجتمع العربي، وبعد مرور أكثر من قرنين من انطلاق النهضة العربية وما رافقها من جهود الإصلاح الديني، لا تزال الثقافة السياسية في المجتمع العربي تتأرجح بين ثنائية السلفية والتحديث، بشكل يشق الوعي السياسي إلى شقين: أنصار علمنة الدولة وأتباع أسلمتها، التيار الأول مرجعيته مرحلة الإسلام المبكر باعتبارها النقطة الوحيدة المضيئة في تاريخ الأمة؛ ويتقدم هذا التيار الإمام محمد عبده، وعبد الرحمن الكواكبي، حيث عبر الأول عن اندهاشه بما رآه من عدالة اجتماعية في النظام الغربي الحديث، بقوله ذهبت إلى الغرب فوجدت الإسلام ولم أجد المسلمين وعدت إلى الشرق فوجدت المسلمين ولم أجد الإسلام. في حين رأى الكواكبي أن التاريخ السياسي للأمة العربية يكاد يخلو من النقاط المضيئة، باستثناء عهد الراشدين، وعليه فلا مناص من القفز من الراشدين إلى الفرنسيين، وكما أن الإمام محمد عبده لم ير أي ضير من نقل النموذج السياسي للنظام المطبق في الغرب، باعتباره ( بضاعتنا ردت إلينا) رأى الكواكبي أن العلمانية التي عرفتها الحضارة الغربية الحديثة ليست غريبة عن الثقافة السياسية للإسلام، ففي عهد الخلفاء الراشدين لم يكن للخليفة أي صفة ثيوقراطية أو كهنوتية تجعله بمنأى عن المساءلة، فهذا الخليفة الثاني عمر بن الخطاب، في أول خطبة له أمام المسلمين يقول لهم أيها الناس إني وليت عليكم ولست بخيركم فإن رأيتم فيَّ اعوجاجاً فقوموني، فينهض أحد القاعدين ويرد على الخليفة بالقول: لئن رأينا فيك اعوجاجاً لقومناك بسيوفنا، فلا يضيق صدر الخليفة لهذا الرد، بل يرى فيه اليقظة المطلوبة لاستقامة الحكم الرشيد. إلا أن منهج الإصلاح الديني الذي بدأ مع محمد عبده وعبد الرحمن الكواكبي وخير الدين التونسي و رشيد رضا وصولاً إلى حسن البنا، لم يستمر، وإن ظلت الثقافة الدينية تمارس سلطتها، ولكن باتجاه نكوصي، فكما هو معلوم، في العالم ما قبل الحديث، يظل الدين يبسط سلطته بصورة مباشرة على كافة مناشط ووجه الحياة في المجتمع. فالدين، إلى حدٍ كبير، هو ثقافة سياسية، ليس فقط في العالم العربي، بل في مختلف البلدان النامية، ففي الوقت الحاضر أصبح الدين ثقافة المحرومين، وجهازاً رئيسياً بالنسبة لأولئك الذين يشعرون بالإبعاد عن المجتمع، وبالنسبة للفقراء وبخاصة في مجتمعات غير متكافئة أو غير متساوية فإن الدين يعتبر الصوت القوي للمعارضة السياسية. وفي مجتمعاتنا العربية التي شهدت تغلغل مكونات الثقافة الدينية أكثر من غيرها، تستمد مختلف القوى السياسية ثقافة الاحتجاج ضد الديكتاتوريات وسياسات الهيمنة وأخيراً ضد الغزو الاستعماري من الدين. فبعد الإخفاق الذي تلقاه المشروع الحداثي العربي وما ترتب عليه من اتساع حجم الفئات الشعبية المهمشة، و تراجع مساحة الحريات العامة، سرعان ما برزت حركة الإسلام السياسي، بعد أن حادت عن نهج الإصلاح الديني للإسلام الرحب والمتسامح، فتحولت إلى حركات تكفيرية على يد سيد قطب ومحمد قطب، والسلفية الجهادية، ومرجعية هذه الحركة تستند، إلى الماضي القريب، أي ما أنتجه السابقون من تراث فقهي بعقلية لا تخرج عن دائرة الماضي ولا تتجاوز مقتضيات الزمان والمكان، وقد جاء ظهور هذه الحركة كمحصلة لمحطات الفشل المتلاحقة في التاريخ العربي، ويدعو هذا التيار إلى سلفية مثالية تحت شعار (( إن الحكم إلا لله )) (وبما أن العلماء ورثة الأنبياء، فإن السلطة في المجتمع يجب أن تكون لهم) ويمكن القول بأن وضعية الإِرِجاء والمماطلة التي مُنيت بها الديمقراطية في المجتمع العربي، وما ترتب عليها من تزايد الشعور بالحرمان من الثروة والقوة، أسهمت في دفع أنصار التيار السلفي إلى تقديم أنفسهم كبديل شرعي ووريث بيده صك المطالبة بالسلطة من نظم سياسية عتيقة.. ولم تقف هذه الثنائية، التي تقسم المجتمع العربي إلى قسمين، عند حدود الحركة الدينية بل تجاوزتها إلى مختلف مكونات المجتمع بفعل ممارسة هذا الإرث الثقافي، الذي يثقل كاهل الوجدان الشعبي، لسلطته على الرأي العام و على النخب، على حدٍ سواء، فقسم كبير من العلماء والأدباء يعيشون مغتربين بعقولهم في الماضي محكومين بكل سلطاته الظاهرة منها والخفية السياسية والأيديولوجية. ويمكن القول بلا شرعية كل من الأيديولوجية العلمانية أو ما يمكن تسميتها بحركة الإصلاح الديني، والأيديولوجية السلفية، فنظرياً تعد الأولى مجترة من الماضي والثانية مستوردة من الآخر، دون أن يبدي أي تيار حرصه على محاولة ربط أيديولوجيته بالسياق الاجتماعي الذي ظهرت من خلاله، بما يعني أن كلا الأيديولوجيتين ليست أكثر من محاولة حماسية تتعالى على مستوى الواقع وترتفع عن ملاحظة نسيجه الثقافي، لتبقى – في رأيي- محاولة محكوم عليها بالفشل منذ البداية، لما تثيره من ردود فعل نكوصية مساوية لها في القوة، إن لم تفقها، ومضادة لها في الاتجاه الفكري والأيديولوجي. وواقعياً لم تفض حركة الإصلاح الديني ( السُنِّية) إلى مشروع دولة، على غرار ما وإن أفضت إليه حركة الإصلاح الديني (الشيعية) عبر الثورة الإسلامية في إيران، من خلال الانتقال من نظرية الإمامة إلى نظرية ولاية الفقيه، بما يؤخذ عليها من مواقف أهمها: عدم قدرتها على قطع صلتها بالسلفية، حيث لا تزال مُصِرَّة على تبني الفكرة السلفية التي تقسم العالم إلى قسمين: ديار كفر وديار إيمان، لذا تظل هذه التجربة محاصرة بكثرة أعدائها إن لم تكن مهددة بالانهيار، في حين تواصل السلفية السنية، ممثلة بحركة الإخوان المسلمين، سعيها للوصول إلى السلطة، عبر الانقلابات العسكرية- تارةً- كتجربة البشير في السودان، وعبر القبول بالديمقراطية لمرة واحدة- تارةً أخرى- كما حدث مع حماس، إلا أن كلا النموذجين يرفض التعايش مع الآخر، و التخلي عن فكرة التصادم مع الآخر، كرفضه لتداول السلطة. ويمكن القول بأن مشكلة التطرف في المحافظة والسلفية، يتحمل مسؤوليتها، ليس فقط أتباع السلفية، بل كذلك المتطرفون في اتجاه التحديث، فالسلفية وليدة واقع اجتماعي وسياسي مترد ووليدة مخاوف من غلو اليسار وأنصار التجديد والعلمانية السافرة، وهنا تكمن الشمولية التي تدعي امتلاك الحقيقة وتكرس الاستبداد، فلم يستغل المفكرون رحابة النص الديني ومرونته التي أفسحت المجال لظهور الفِرق والمذاهب المختلفة وما رافق ذلك من نهوض حضاري في مختلف جوانب الحياة بل عمدت كل حركة من حركات الإسلام السياسي إلى ممارسة الشمولية باعتبار مقولاتها هي القول الفصل، ووصف الاجتهاد أو (المقولات الفقهية والسياسية) بصفة المقدس.