التجريد حالة جبرية حتى في أكثر الأعمال واقعية .. فالتجريد لا يعني في نهاية المطاف سوى خدعة بصرية يمكن إدراكها عبر الوهم أو الخيال، وهذا يتحقق في اللوحة الكلاسيكية إذا نظرنا اليها بوصفها حمّالة بُعد ثالث لا يتجسد في سطح القماش المرسوم، ذلك أن السطح طول وعرض ، والبُعد الثالث «العمق» وهمي بامتياز . من الناحية الواقعية يرسم الفنان ويتحرك في الطول والعرض لا العمق الذي ليس إلا عمقاً منظورياً او خيالياً، يتمكّن الفنان من تجسيده وفق قوانين المنظور البصري . لكن إذا قمنا بانزياح تاريخي وتتبعنا أعمال الانطباعيين سنجد أنهم قاموا بتصوير المرئي لا المألوف، وبالتالي .. غيّروا في الخيارات اللونية، وشرعوا فيما يمكن تسميته أول محاولة لتفكيك اللوحة الكلاسيكية .. أمّا الذين جاءوا بعد ذلك كالتكعيبيين والتجريديين والرمزيين وغيرها من المدارس الفنية التي تلت الانطباعية .. فإنهم جميعاً واصلوا الحفر في ذات المنهج التفكيكي الذي بدأه أوائل الانطباعيين أو التأثيريين أمثال «فان جوخ» و «سيزان» و «لوتريك» و «سورات»، وغيرهم من فناني هذه المدرسة . تالياً استطردت لعبة الفن على مداخل وأحوال انسابت مع التجارة والمال ومع الأزمات الوجودية والفلسفية في القارة العجوز .. فإذا بالمدارس الفنية الحديثة تتناسخ كالنمل وتتكاثر كالأرانب وبمسميات كثيرة تعد بالمئات !! لقد ولج الفن التشكيلي وبقية الأنواع الفنية دروباً أكثر وعورة، وأحوالاً تُمازج بين الفنية الصرفة وعالم المال والدعاية، حتى اختلط الحابل بالنابل وأصبح الوهم سيد الموقف، وفقدت المدارس الفنية مرجعياتها التقليدية . من المهم الإشارة هنا إلى أن فنون التشكيل والموسيقى والشعر تعرضت لتيارات هائلة من التغييرات الطبيعية والقسرية، وتداخلت مع الأهواء والمناخات التي استتبعت الحروب والمظالم . كما أصبح الفن في عصر الوسائط المتعددة عنصراً هاماً في الترويج الإعلامي والخطاب الأيديولوجي، والمصالح الكبرى للشركات العالمية والى درجة يصبح فيها الخيط الرفيع الفاصل بين الفن واللافن أكثر وهناً وخفة من أي وقت مضى.